هي صورة للجنرال “سراي” المفوض السامي الفرنسي على سوريا ولبنان وهو ثالث مفوض لفرنسة في سوريا بعد “غورو” و “ويغان”.
وما ترونه هنا صورة اصلية محفوظة في ارشيف سيريانيوز، التقطت بواسطة احدى وكالات الانباء بتاريخ 20/10/1925 ، وهو التاريخ الذي تعرضت فيه دمشق للقصف عقب الثورة التي نشبت فيها ضد الوجود الفرنسي وقام الثوار بمهاجمة قصر العظم بجانب الجامع الاموي لاسر الجنرال “سراي” بعد ان اعتقدوا انه يقيم فيه.
وتبع هذا قصف وحشي لمدينة دمشق طال معظم احياءها القديمة وتسبب في هدم وحرق الكثير منها وقتل مئات من السكان الملسمين والمسيحيين واليهود.
وهذا ما ابطل حجة “سراي” الذي روج بانه يقوم ملاحقة الثوار وقصف الاحياء في دمشق حفاظا على حياة “المسيحيين” فيها.
ومن المناسب هنا ان ننقل مشاهدات صحفية فرنسية تدعى “آليس بوللو ” زارت الاحياء التي تعرضت للقصف في دمشق وكتبت الوصف التالي :
الاحد 25 منه
بدأت هذا الصباح رحلتي الى (( الخرائب الحزينة )) في مدينة دمشق ، وكان انطباعي عنها لا ينسى ، فبعد أن وصلت الى شارع (( السنجقدار )) في طقس قاتم مقبض وحزين لم أعد أعرف أين أنا !
إ ن كل الحمامات وكل مخازن الجهة اليمنى مما قبل جامع الدرويشية قد دمرت ، أما مخازن الجهة اليسرى فقد تهدمت بكاملها ، وكذلك الحوانيت التي كان لي بين اصحابها أصدقاء ، مهذبون وشرفاء منذ مدة طويلة .
وكان دخان الحرائق ينبعث هنا من كل شيء . ويختلط بغبار الخرائب ، وقد أصيبت المآذن و القباب بصدوع من القنابل ، وكأنها تعرضت لغزوات بربرية ،
وعلى الجانب الايمن من الرصيف ، وعلى مقربة من مدخل سوق الطويلة وقفت سرية من جنود الفرقة الاجنبية ، واسلتحهم على مقربة من اقدامهم ، وقد أمكن تمييز كثير من الروس بينهم ،إن وجوه هؤلاء لا توحي بكثير من الثقة فهل يريدون أن يبثوا الذعر أيضا،ولما لاحظ الضابط الشاب الذي كان يقودهم أن المارون يتفحصونهم أخذ يتبختر بكل خيلاء .
وتابعت طريقي حتى مدخل الميدان ، وهنا وجدت شيئا جديدا يدمي القلب : فقبة جامع السنانية الرائع تشوهت بثقب ضخم، ولكن القنبلة التي احدثت هذا الثقب لم تنفجر بعد سقوطها الى الداخل لحسن الحظ ،كما ان سوق السنانية الصغير الذي تعم فيه البهجة يوم مولد النبي ،قد أغلقت جميع حوانيته بعد ان تضررت وإن ما أعطاني فكرة صحيحة عن تأثير القصف الذي جرى هنا هو رؤيتي فجأة ، ومن خلال أحد الازقة ، صفائح سقف “سوق الطويلة ” الضخمة ، وقد انفصلت عن بعضها وتخربت وتهاوت على الارض وكأنها بقايا منطاد “زابلين “.
ان كل اولئك الحوانيت الصغيرة ، التي كنت آتي اليها لابتاع الاقمشة و الاصواف المصبةغة قد شوهت ابوابها وأحرقت رفوفها وخلت من محتوياتها .
وقال لنا ابناء الحي انهم راوا هنا جنودا يخلعون أبواب الحوانيت ويسرقون ما تحويه في وضح النهار .
ومن خلال تصدعات السقف الواسعة كان ضوء النهار يهبط لكي ينير الخرائب ، وقد احتار الكل من رؤية السماء وضوء النهار في هذا المكان الذي كان يبدو سابقا كنفق مظلم يمتلئ بصراخ المنادين ووقع الاقدام . ولم تعد الحياة وظاهر النشاط الا للحي المسيحي فقط .
ومن سوق البزورية المملوء بغبار الركام الرهيب وصلت الى قصر العظم الذي شاهدت دخان الحريق لا يزال ينطلق منه منذ بضعة ايام . وخلف اكياس الرمل ، وقف جنود من الفرقة السورية يراقبون وقد تفضلوا مشكورين بالسماح لي بالدخول .
لم اكن اتصور مطلقا انني سأرى ما رأيته !! رأيت قبل كل شي قرب المدخل نصبين دفن تحتهما اثنان من جنودنا ]الفرنسين[ كانا يدافعان عن الباب المهدوم حاليا وآمل أن يسجل اسماهما في يوم ما على الباب الذي سيحل محله.
وعلى مسافة أبعد قليلا كان يجثم قبر أحد الدروز . ثم على مقربة من هناك كان الحرس يشربون الخمر فوق طاولة صغيرة ،وآخرون يشعلون النار كما وقف أحدهم على السطح يراقب و السلاح في يده وصفوف الرصاص تغطي جسمه .
وأمام هؤلاء شاهدت كومة رهيبة من الركام امتدت اطرافها حتى منتصف باحة القصر فوق أرضه الرخامية وبالاضافة لذلك كانت توجد بعض الافازير المحترقة مع بقايا من الدهان المسود الذائب وهذا كل ما تبقى من قاعة الف ليلة وليلة الرائعة ، التي كانت تقدم فيها الحفلات الموسقية العربية في الامسيات وتعوم الورود فوق ماء حوضها وحول شلال صغير له دمدمة عذبة ولم يبق شيء سليم من كل هذا اللا حوض الماء وحديقة الورود الحمراء واما ما عدا ذلك فلم يعد يوجد منه اللا الغبار وهذا ما يربك العقل حقا . ووما يصدم المرء منذ الوهلة الاولى انه يجد البرهان البديهي على ان النقمة هنا انصبت على احسن ما صنعه الانسان .
ولم يعد يوجد الآن اي مظهر من مظاهر الحياة في القصر فالحمائم الاليفة التي كانت تهدل وتملأ بالعابها هذا الجو الذي يشبه اجواء القصص الفارسية قد طرن الى الابد .
ومكتب “المسيو دي لوري” قد اعتدى عليه بشكل همجي ، فكل تحفة واضباراته وضعت على الارض ممزقة او ملطخة ، ومغلفات الوثائق الخضراء تناثرت تحت الاقدام ، بل حتى الكراسي تحطمت و الزجاج تكسر ، ولم يبق من شيء سليم حتى في القاعة المجاورة التي ترى فيها مطفأة حريق آلية حتى الآن ،
وفي الصالة الكبرى بقي السقف على حالة لحسن الحظ ، ولكن سرقت منها احدى ثروات القصر ، الا وهي السجاجيد القديمة التي لا تقدر بثمن حيث لم يبقى منها الا اطرها البيضاء الجديدة .
ولم يعد هناك من شي في التجاويف المخصصة لعرض التحف وحطم حوض الماء بضربات اخمص البنادق . ان هذا تخريب ، تخريب لا يمكن ان تفي صفه معينة للتعريف به وذلك كما هو الحال في النكبات الكبرى !
أما المكتبة فقد خرقت حرمتها بشكل لا يقبل التصور ، وفيها شعرت بأن غضى قد انفجر حقا أمام اللوحات الممزقة ، فعلى الارض كان يوجد مخطط للقلعة واكداس من الوثائق وبطاقات المعلومات و الرسوم و الصور . وكل هذا قد ضاع ولا يمكن تعويضه في الوقت الذي نحن بامس الحاجة له لتنزين صفحات كتابنا ، وهكذا أصبت في الوتر الحساس تماما . وها هو رسم وردة وابريق عربي قد ديس عليهم بالاقدام الموحلة .. ان هذا لمكرب حقا!
وعلى عتببة المتحف انتشر حطام اواني “البورسلين ” الذي سحقت قطعه وديست بالاقدام ومن بين هذه الاواني وعاء قديم جميل ، لونه ازرق ومخطط بالذهب يندر وجود مثله في العالم كله ، ولقد عاش هذا الوعاء عدة قرون ومرت عليه عدة مشاهد مشابهة قبل ان ينتهي به الامر في هذه المرة الى هذا الشكل المحزن .
ولم يعد يوجد هناك حتى البقايا من الرفوف الخشبية الصغيرة التي كانت موضوعة بشكل ماهر لعرض التحف عليها وان هذا تخريب وحشي بشع ! والتدمير في قاعة “الميداليات” يحز في القلب اكثر فقد بقيت البطاقات المذهبة التي تعرف بالميداليات فقط .ذلك كي تجعل حسرتنا اشد لوعة، وعلى الجدار اختفت قطع الاقمشة القديمة الثمينة وكذلك صورتا “غورو” و”ريغان” و التمثال القديم الذي كان موضوعا في صندوق خشبي نفيس قد تحطم وقاعة الرسم لم تعد اكثر من كهف غطيت ارضه بالرسوم الملوثة .
ولكن الشيء الذي لا يمكن وصفه حقا هو منزل الجنرال ساراي خلف صالة الف ليلة وليلة . اه ! لو كان الجنرال هناك في اللحظة التي تم الهجوم كما كان يعتقد المهاجمون لتعرض لقضاء ربع ساعة من اسوا ما يكون ! فمن الواضح انهم ينقمون على الجنرال نفسه ، وهو الذي حمل النحس الى هذا القصر المسكين ويعرف المرء من هذا بسهولة ان ” جنون الانتقام ” هو الذي جعل من منزله هذا “العدم المتداعي ” وقد بقي كرسي بائس من الخيزران قرب حوض الماء الموجود في الساحة ولكن قاعدته قد شوهت بوحشية .
ولكن ماذا حل بساراي ؟ لقد ذهب وبقى الخراب وجثمان جنديينا المسكننين قرب الباب .
وقال لي حارس الباب إن الثوار قد هاجموا في يوم الاحد حوالي الساعة السادسة مساء بعد ان علموا بان ساراي سيكون هناك في ذلك الوقت . وان الضجة التي حدثت في تلك الليلة والانوار التي انعكست على المآذن كما شاهدناها ذلك المساء ، لم تكن الا كما كنا قد تنبأنا سابقا باختصار.
وقرب بنك سوريا بين سوق الحميدية وسوق الطويلة كان هناك حي اخر تعرض لتدمير رهيب]جراء القصف[ اذ لم يعد فيه شيء قائم ابدا ، كما ان رائحة الموت كانت تنتشر في بعض امكنته التي دفن فيها الناس تحت ركام بيوتهم ..
وهكذا اعيدت فاجعة “بومبي” ولكن بمفعول القنابل هذه المرة . وبينما نجد افراد احد الجانبين يحرقون المدينة من اليسار انتقاما ، نجد افراد الجانب الاخر يهدمونها عتابا من اليمين ، فأي حيوان محزن هذا الذي يسمونه الرجل ؟ !!
ولقد تعرضت الاشجار اللطيفة المسكينة في الباحات الداخلية للتحطيم و الحرق في كل مكان وتراكم الحطام قرب الاحواض التي نضب ماؤها ، وكان هناك بعض البدويات ينقبن في الاركان المدخنة ، ولم يبق من شي الا مدخنة ارتفعت وكانها احد الابراج .
وكانت الاسلاك الكهربائية متداعية في كل مكان ، وماء السواقي المهدمة “
سيريانيوز