استؤنفت المفاوضات حول مصير سورية ومستقبلها في جنيف الأسبوع المنصرم. ودار كلام الديبلوماسيين الروس والأميركيين حول أهداف مشتركة، ويبدو أن البلدين عازمان على ليّ يد «زبائنهم» على طاولة المفاوضات. وتقول المجموعات المعارضة أنها رصّت الصفوف وصارت قادرة على انتزاع تنازلات من النظام. وللمرة الأولى، أعلنت أنها ستتعاون مع بعض شخصيات النظام.
لكن المفاوضات تغفل مسألة مهمة: سورية تشظّت، ولن يجمع أي اتفاق سلام أواصرها ولن يعيدها الى سابق عهدها. وعلى رغم الكلام على «النظام» و«المعارضة»، سورية اليوم هي فسيفساء من إقطاعات بالغة الصغر. فالحكومة سلّمت شطراً كبيراً من الأراضي الى إيران وروسيا و«حزب الله». ومعارضوها متباينو الألوان، من «داعش» الى مجموعات معارضة صغيرة، على رأسها أمراء حرب يعتمدون على مانحين أجانب. وعلى جبهات النزاع كلها، ينشر أمراء الحرب نقاط تفتيش هي معابر حدود أقاليمهم. ويكاد أن يكون محالاً أن يتنازل هؤلاء عن أقاليمهم لحكومة وطنية.
ويهدّد انهيار سورية استقرار الشرق الأوسط. فهي كانت لاعباً بارزاً في العالم العربي منذ الحرب العالمية الثانية. وغالباً ما توسلت سياسات تزرع الاضطراب والدمار، وكانت تمسك بمقاليد نزاعات نهشت دول الجوار وتؤدي دور المخلص المنقذ. وأدت دوراً بازراً في نزاع القوى الأجنبية التي تدخلت في حرب لبنان الأهلية، وساهمت في وقف الحرب حين احتلّت البلد كله. وباركت الولايات المتحدة الاحتلال هذا. ولولا دمشق، لم تكن الحياة لتكتب لعدد من الحركات المسلّحة، ومنها «حزب الله» و«حماس». ووجدت مجموعات كثيرة كانت مدرجة على لائحة الإرهاب في الغرب، ملاذاً آمناً في سورية. ورعت حكومة الأسد قيام المتمردين العراقيين على الاحتلال الاميركي، ودعمت المتطرفين الذين يرأسون اليوم «داعش».
وعلى رغم دورها المزعزع للاستقرار، كانت سورية مركز القرار في منطقة تفتقر الى قادة قادرين على إبرام الاتفاقات والتزامها. وفي عدد من الأوقات، تعاونت الولايات المتحدة وإسرائيل مع دمشق. واليوم، يبدو أن نفوذ سورية في المنطقة انقلب من حال الى أخرى، فهي لم تعد محركة الدمى أو الممسكة بالمقاليد، بل صارت في مثابة ثقب أسود. فالحرب السورية تعيث الاضطراب، سواء من طريق ملايين اللاجئين الباحثين عن بر أمان خارج حدود سورية، أم من طريق بروز «داعش» وتجارة سلاح ضخمة ومصدر تمويل للمقاتلين. وقد تكون المرحلة المقبلة أسوأ، ولو أبرم اتفاق بين بعض فصائل المعارضة والحكومة. فالمنطقة التي سيسعون الى حكمها صغيرة وليست سوى جزء من سورية. والدمار غزا نواة سورية الاقتصادية، حلب. وهي كانت أكثر مدنها كثافة سكانية. وقبل الحرب، كانت عجلة نظام الاقتصاد والتعليم والصحة تدور، ولو كان دورانها متواضعاً. ويرجح ألا تعود الى سابق عهدها. ففي مرحلة ما بعد الحرب، الغالب أن تستضيف الأراضي السورية المتطرفين ومقاولي العنف والفساد.
لكن في مثل هذه الأحوال، لماذا الإقبال على مفاوضات جنيف؟ من أسباب هذا الإقبال، سياسة القوى العظمى. وتسعى موسكو وواشنطن الى تهدئة التوتر بينهما، ويحسب ديبلوماسيو هذين البلدين أن الاتفاق في سورية سيؤثر إيجاباً في عدد من المسائل الأكثر أهمية، مثل أوكرانيا. والسبب الثاني، الإنهاك: فإيران و «حزب الله» دعما النظام طوال سنوات، لكن لولا الدعم الروسي لعجز عن الصمود. ودرجت تركيا وأميركا ودول عربية على التراجع عن دعم وكلائها كلما مالت كفتهم، مخافة فوزهم بالسلطة. فهم لا يعرفون ما ستكون عليه سياساتهم إذا قيّد لهم الفوز. والسوريون فقدوا الأمل. وصفوف المقاتلين تنضب. والى اليوم، لا يحمل أحد من اللاعبين السوريين المفاوضات على محمل الجد. فممثلو الأسد يرون أن المعارضين «إرهابيون»، وهؤلاء يدعون الى تنحّي الأسد الفوري.
مركز الشرق العربي