إنها الحرب، تطحن برحاها الأبرياء دون رحمة أو هوادة وتلجم بالأسى أفواه المستغيثين, ولعل أكثرهم ظلماً زوجات الشهداء والمعتقلين, حيث يَنمن مكتحلات بجمر الانتظار, متوسدات الليل الحزين, فهذه تترقب ذاك اليوم الذي يعود زوجها المعتقل, وأخرى تُبحر في ذكرى جميلة لزوجها الراحل .
وعلى الرغم من معاناة الانتظار، إلا أن هذه الزوجة أصرت على مقاومة ظروفها, فهي التي تكابد آلامها بالبحث خلال النهار عن أي وسيلة لكسب لقمة العيش وسد الرمق, أما ليلها فهو النديم الذي لابد منه مع كأس من دموع الحرمان واللوعة .
إلا أن هذه الضحية لم تأبه لأخذ دور الأم والأب معاً, فبعد ويلات السهر وإذلال النفس تراها الأب المربي والأم الحنون .
تقول لي صديقتي (ض.ز), ” أنا أم لأربعة أولاد, لم أترك وسيلة لم أطرق بابها, فخضعت لدورة تمريضٍ طالما حلمت باستكمال دراسته أكاديمياً قبل الثورة, ولكن بسبب القصف العشوائي على البلدة، توقّفت الدورة وحُرمت من الحصول على شهادة بسيطة قد تُساعدني بإيجاد فرصة عملٍ تُعينني للعمل وإعالة أولادي في بلدان النزوح بعد حملة القصف الأخيرة”.
وأكملت حديثها والدمع يسبح في عينيها, “وكذلك خضعت لدورة تعلم الخياطة التي أقامتها إحدى الأخوات النازحات من ريف حماة الشمالي, لكن الطريق كان طويلاً وكنت أحمل ابنتي ذات السنوات الثلاث تاركةً أولادي الباقين ينتظرون عودتي, حملتها لمسافات بعيدة, أضناني التعب لكني لم أكترث وأصرّيت على السعي وراء فرصةٍ تسدّ عوزي وحاجتي للآخرين, ودفعت ثمن ذلك راحتي واحتراق أولادي بنار المدفأة وأنا بعيدة عنهم” .
على نفس السياق, تقول إحدى زوجات المعتقلين: “بينما كنت أعد طعام الغداء جاء زوجي متعباً من عمله بحراثة الأرض, وإذ بجرس باب المنزل يقرع بشدة في فترة مداهمة الجيش للبلدة, ثم اختفى صوت زوجي من المنزل, خرجت من الباب لأجد رجال الأمن قد اقتادوه إلى سيارتهم مع الضرب والإهانة, دون أي جرم يستحق هذا الظلم, ليمضي على سجنه أكثر من ست سنوات حتى الآن ولا أدري أهو على قيد الحياة أم أنه مات تحت التعذيب” .
كانت زوجة هذا المعتقل تنتظر آخر الشهر بفارغ الصبر مصحوباً بألم الكرامة المفقودة, لتنال قسمتها من سلةٍ غذائية لا تُغني ولا تُسمن من جوع, فما لها إلا أن تبيعها لتشتريَ بعضاً من حاجياتها, أو توفي بثمنها جزءاً من ديونها المتراكمة, حيث لا مُعيل لهم إلا الله .
مهما وصفنا حال هؤلاء النسوة من زوجاتٍ للشهداء أو المعتقلين لن يفينا الوصف, ولن نتمكن من رسم صورة حالهم ببعض الكلمات, أو بديع الجمل, ورغم اهتمام بعض المؤسسات المدنية لمثل هذه الحالات إلا أن العمل غير المأمول, والمُقدّم غير المرجو منهم, فحتى لقمة عيشهم بات البعض يُتاجر بها ويسرقها من فم هؤلاء اليتامى والوحيدين.
لذلك علّ صرختنا تصل من كان به صممٌ, وتكون وميضَ أمل لآلاف العائلات من هذه الطبقة المنسيّة, رغم أنه مهما قدّمنا لهم لن نعوّضهم ذاك الرجل الذي فقدوه, فبدمائهم وصرخاتهم علَت أقوامُ وذُلّت نساء وعائلات.
يُقال “علّمني الصيد ولا تعطني سمكة”, فهنّ لا ينتظرن منّا إلا أن نكون عوناً لهن ولأولادهن بتعليمهم ما يكون سنداً لهم في مستقبلهم, فإن غاب عمود البيت ستكون هذه الأم جدرانه وسقفه والأولاد أثاثه وزينته, لذلك اجعلوا جلّ اهتمامكم أيها المعنيّون تمكين هذه الأسر لما فيه مستقبلهم ومستقبل آلاف الأسر من خلفهم .
المركز الصحفي السوري _ بقلم : فداء معراتي