لم يبق من سورية، التي نعرفها باسم “الجمهورية العربية السورية”، سوى جزر جغرافية متقطعة تحتلها دول أو قوى أجنبية. في الجنوب، تحتل اسرائيل معظم محافظة الجولان، بينما تحتلّ إيران عبر قوات “الحرس الثوري الإيراني” و”حزب الله” بقية المساحة من القنيطرة الى دمشق وريفها. في الشمال، يحتل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) أجزاء واسعة من ريف حلب، فيما تحتل قوات البيشمركة العراقية مدينة عين العرب (كوباني) وعدداً من القرى المحيطة بها. في الشرق والشمال الشرقي، يتقاسم السيطرة “داعش” و”جبهة النصرة” والأحزاب الكردية المرتبطة بإقليم كردستان العراق. في دمشق، كما في ريفها الغربي ومحافظة حمص، لا سلطة للنظام إلا ما يمنحه إياه القادة الميدانيون الإيرانيون في “الحرس الثوري” و”حزب الله” والميليشيات العراقية والأفغانية. أما بقية الجزر السورية، في حوران والرقة ودير الزور وإدلب والحسكة والساحل، فهي إما تحت سيطرة فصائل “الجيش السوري الحر” و”جبهة النصرة” والأحزاب الكردية، أو ما يسمى “قوات النظام” التي يديرها ويقرر فيها الضباط الإيرانيون أنفسهم.
هذا الأمر يجعل من سورية دولة محتلّة، وإن بقي على رأسها (كما كانت حال سايغون أثناء الحرب الفييتنامية أو الكويت بعد احتلال صدام حسين) ما يوصف بـ”حاكم سوري” يعاونه مجلس وزراء ومجلس نواب وحتى جيش وقوى مسلّحة. وفي الجانب الأكبر من هذا الاحتلال، الجانب الإيراني، لا حاجة الى إعادة التذكير بما يقوله قادة طهران عن سورية باعتبارها “المحافظة الإيرانية الـ35″، ولا عن دمشق التي تخضع لسلطة “الولي الفقيه” فيها مع ثلاث عواصم عربية أخرى هي بيروت وبغداد وصنعاء.
ولا يعني شيئاً هنا قول النظام إن قواته تتقدم هنا أو هناك، فقد ردّد كلاماً مشابهاً الجنرال نغوين فان ثيو عشية تحرير سايغون وبقية أراضي فييتنام الجنوبية وانسحاب القوات الأميركية منها، كما العقيد علاء حسين علي قبل تحرير الكويت وانسحاب قوات الاحتلال العراقية.
في سورية اليوم، حتى دمشق نفسها ومعها القصر الرئاسي، باتا تحت الاحتلال الإيراني وبإدارته المباشرة، السياسية والعسكرية والأمنية، على رغم كل ما يقال خلاف ذلك في العاصمة المحتلة أو في عاصمة دولة الاحتلال إياها.
وهذه الحال تستدعي بنتيجة ذلك، ليس من المعارضة السورية فقط بل من العالم العربي وحتى من العالم كلّه أيضاً، مقاربة عملية مختلفة جذرياً من جهة أولى، وخطاباً سياسياً جديداً من جهة ثانية، انطلاقا من واقع أن ما يشهده هذا البلد العربي لم يعد بعد أربعة أعوام كاملة من الحرب المجنونة، مجرّد قمع وحشي لثورة شعبية تطالب بتغيير النظام، أو ربما بإصلاحه، بل هو احتلال مباشر من دول وقوى أجنبية.
لعلّ أول ما ينبغي النظر فيه، ثم العمل على تحويله الى واقع سياسي وشعبي وتنظيمي (تتبناه الدول العربية وحتى الجامعة العربية نفسها)، صهر كل من “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” و”المجلس الوطني السوري” وغيرهما من القوى والفصائل والتنظيمات في جبهة واحدة، أو ربما ائتلاف جبهات، تكون مهمتها تحرير سورية من الاحتلالات الأجنبية.
تنظيم “داعش” هنا لن يكون سوى قوة احتلال أجنبية، كذلك هي إيران وأتباعها من “حزب الله” الى الميليشيات العراقية والأفغانية، كما هي “جبهة النصرة” بدورها وإن كان معظم أفرادها ومقاتليها من السوريين، من دون أن ننسى قوات البيشمركة الكردية في عين العرب (كوباني) والحسكة، ولا طبعاً الاحتلال الإسرائيلي للجولان منذ 1967 حتى الآن… وإن تكن لهذا الأخير تفصيلات أخرى مختلفة.
في ظلّ هذه الجبهة المتماسكة داخلياً، والمدعومة عربياً، سيكون العالم المشغول بإرهاب “داعش” ومخاطره عليه، أكثر تفهماً ليس فقط للوضع السوري الراهن، إنما أيضا أكثر استعداداً لقتال هذا التنظيم وإنهاء احتلاله لكلّ من سورية والعراق وليبيا وغيرها.
وفي ظلّها، سيكون ممكناً كذلك حتى البحث بحلّ سياسي منطقي وعادل للحرب السورية، انطلاقاً من حقيقة لم تعد خافية على أحد في سورية، ولا في العالم، هي أن الاحتلال الإيراني لسورية بات ورقة تضعها إيران على أية طاولة مفاوضات تجمعها مع أية دولة من دول العالم. وإيران، لهذا السبب، منعت سابقاً وستمنع في المستقبل، أي حل سوري لا يكون لها دور فيه… وتحديداً في سورية ما بعد هذا الحل. لكن في ظلّها بعد ذلك كله، ستوضع الحال السورية الراهنة في إطارها الصحيح: أنها باتت قضية احتلال أجنبي مباشر لبلد عربي، وإن تحت غطاء دفاع هذا الاحتلال عن نظام تجمعه به جبهة ما يُسمى تارة “محور الممانعة والمقاومة”، وتارة أخرى محاربة “الاستكبار العالمي” ووحدانية القطب في النظام الدولي.
وما يبقى هو السؤال الأهم: هل يمكن التفاهم على إنشاء هذه الجبهة؟.
محمد مشموشي – الحياة