من الملاحظ جيداً في هذه الأيام، تسجيل حالات كثيرة لأشخاص يعانون أمراضاً نفسية خطيرة في المناطق التي تخضع للحصار في ريف دمشق.
ويعيش الناس في هذه المناطق حياة لا تحتمل، حيث لا طعام ولا خدمات، والأمراض والأوبئة في انتشار كبير، والضغط النفسي الناجم عن هذا الواقع المر الذي لا ينتهي بات ينذر بأمور خطيرة، قد تكون الأمراض النفسية كالسادية والأفعال القسرية وفصام الشخصية، أولاها بالاهتمام.
في هذا التحقيق نحاول فتح هذا الملف الخطير، بغية الكشف عن حالات مأساوية كان الحصار سبباً رئيسياً في حدوثها، وبهدف سبر أغوار أناس عاشوا في ظل معاناة طويلة قد لاتنتهي في الوقت القريب.
السادية في العلاقة الحميمية
تتحدث سمية عن الحالة المعقدة التي تصيب زوجها خلال العلاقة الحميمية بينهما بأسى بالغ وحزن شديد.
وبينما كان الحياء يغالبها قالت سمية: “زوجي يستخدم العنف الشديد معي، خلال العلاقة.. دائماً يضربني ويشتمني وتصل به القسوة إلى درجة شد الشعر والضرب المبرح”.
وتؤكد سمية أن زوجها اعتاد على هذه الحالة منذ فترة تجاوزت الستة أشهر.
“لم يكن يتعامل معي بهذه الطريقة من قبل، بل كان رقيقاً وحسن المعاشرة، أما الآن فهو لا يرتاح خلال علاقتنا حتى يشاهد دمي سائلاً أمامه من الضرب المبرح، هذه حياة لا تطاق”.
ولدى سؤال أحد المختصين أجاب على الفور أن زوج سمية يعاني من أعراض مرض نفسي ربما كان سببه الضغط الناتج عن الواقع الأليم في المدينة المحاصرة التي يعيش فيها الزوجان.
وأضاف (ت) أن المرض يدعى في علم النفس بالسادية حيث يستخدم المريض العنف والضرب وشد الشعر وغير ذلك من الأمور خلال عملية المعاشرة.
الوسواس القهري
“يتصرف بشكل غريب، أحياناً تراه نظيفاً وأنيقاً للغاية، وفي أحيان أخرى تجده مشعث الشعر مهموماً، وسخ الثياب، بإمكانك القول في النهاية، إنه غير طبيعي على الإطلاق!”.
يقول مجاهد متحدثاً عن جاره الشاب في المدينة (ت).
ويشير مجاهد إلى أن عبد العزيز (26 عاماً) أمسى منذ رمضان الماضي تقريباً غير اجتماعي ويتصرف كأنه أصيب بمس من الجنون.
“أنا أعرفه منذ سنتين تقريباً، كنت أعتقد أنه ليس على ما يرام في بعض الأحيان، لكن حالته منذ أشهر طويلة انتكست إلى درجة لا توصف، هل هو مريض نفسياً؟”، يتساءل مجاهد.
استوقفتنا حالة عبد العزيز هذه، طويلاً، كانت أعراض الحالة المرضية واضحة للعيان، وكان عبد العزيز يبدو كالمخبول في كثير من الأوقات، إنه شارد الفكر، دائم التفكير في شيء ما، لكن ما هو هذا الشيء يا ترى؟، وما السبب في الانتكاسة الفظيعة التي حاقت بعبد العزيز؟
سنعرف ذلك قريباً..
في البداية.. الاكتئاب
لدى رجوعنا لتاريخ عبد العزيز وبعد تمكننا من اللقاء بأحد إخوته تبين أن الشاب عانى من الاكتئاب خلال فترة مراهقته.
مؤيد يكبر أخاه عبد العزيز بسنتين تقريباً.
ألمح خلال حديثه عن أخيه قائلاً: “أصيب أخي في المرحلة التي تلت الطفولة باكتئاب وحزن شديدين، لقد امتنع عن مخالطة الناس، وصار بالغ العزلة حيث هجر دراسته ولازم الفراش”.
ويضيف مؤيد: “عُرض أخي على أحد الأخصائيين في الطب النفسي وخضع للعلاج طويلاً حتى شفي تقريباً من هذا المرض، وبعدها رجع إلى دراسته واستأنف حياته كأي شاب صحيح معافى”.
لأول وهلة يبدو هذا الكلام صحيحاً تماماً، لكن في محاولة غوصنا في الموضوع أكثر تبين معنا أن المرض اختفى لكن إلى حد ما.
يعتبر سامر (26 عاماً) الصديق الملازم لعبد العزيز منذ سنوات الدراسة.
يقول سامر: “تعرض صديقي لمرض الاكتئاب واختفى تدريجياً بعد رحلة علاج طويلة، لا يمكننا القول إن حالته تحسنت تماماً، لكنه أصبح إنساناً طبيعياً”.
ويضيف سامر: “بعد الحصار بدأت حالة صديقي تنتكس شيئاً فشيئاً، لقد أصبح كئيباً، وصار يتخيل أن الوسادة التي يجلس عليها وسخة، الفراش الذي ينام عليه لم يخل من هذه التخيلات، وهكذا أرضية البيت والمطبخ حتى شمل هذا التخيل جميع أثاث المنزل”.
وتعرض عبد العزيز لما يسمى بالوسواس القهري، ووفقاً لسامر: “الحصار كان السبب في عودة الاكتئاب مصحوباً بأفعال قهرية تفرض نفسها قسرياً على الشاب المسكين”.
العدوانية بسبب التبغ
قصة أخرى تعتبر نموذجاً لمثيلاتها في مناطق الحصار، كانت العدوانية هذه المرة هي البطل الرئيسي فيها.
بعد نقص التبغ في المدينة (د) عانى أحمد طويلاً في الجري وراء لفافة التبغ.
أحمد الذي لم يبلغ الثالثة والعشرين عاماً اعتاد على التدخين كمعظم شباب مدينته منذ المرحلة الابتدائية.
ونتيجة للظروف القاهرة التي أدت لفقدان التبغ اضطر أحمد إلى التفريغ عن نفسه بالعدوانية واللجوء إلى العنف.
يقول سعيد متحدثا عن أخيه: “عندما يريد أخي التدخين ولا يجد لفافة التبغ يلجأ دائماً إلى العنف، إنه يكسر كل ما تقع يده عليه، ويضرب برأسه الحائط من غير وعي، تصبح حالته بشعة للغاية، ولا يهدأ حتى نشتري له بضع لفافات بأسعار باهظة”.
ولم نتمكن من معرفة تصنيف حالة أحمد إلا أننا سمعنا قصصاً مشابهة حدثت ولا تزال لسبب وحيد.. هو فقدان التبغ.
جنون العظمة
إلا أن أكثر القصص إثارة للدهشة، قصة فايز التي سنرويها الآن.
حيث يتكلم فايز منذ فترة طويلة بأمور غريبة، بعد رحلة طويلة مع الحصار.
كان فايز (54 عاماً) يعمل قبل الثورة في أرضه كمعظم أبناء مدينته التي اشتهرت بالزراعة.
وعندما بدأت الحرب اضطر الرجل – كغيره – لترك مهنته التي أحبها وللجلوس في البيت أو في أحد الملاجئ حين يشتد القصف.
ومع اعتماد النظام سياسة جديدة في إخماد المناطق الثائرة تمثلت في الحصار طويل الأجل، بدأت قصة فايز تسجل أفكاراً وحكايات ما كانت لتخطر على بال أحد.
التقينا بالرجل الذي رحب بنا طويلاً ثم شرع في القول: “هل تعرف من المقصود بهذه الحرب، إنه أنا”.
ولم يلاحظ الرجل علامة الدهشة التي ارتسمت على وجوهنا لذلك مضى في القول: “كل مرة يحاولون اغتيالي ويقصفون ويدمرون، لكني أنجو من الموت، إنهم يخافون مني لأنني سأفضحهم يوماً ما”.
وفي معرض التوضيح عن الجهة التي يقصدها أجاب فايز فوراً: “إنهم الأشرار، السيئون، كل شخص ارتكب خطأ يخشى مني!”.
وقال فايز: “أنا أعرف وليد المعلم شخصياً، فقد حملت إليه وديعة عندما كنت شاباً”.
وتابع بينما كان يعب من لفافة التبغ الحمراء بشراهة رافعاً رأسه ومُصغراً عينيه: “حينها قال لي وليد المعلم، سنتركك للسياسة.. أنت رجل ملهم وسيخشون منك”.
وتابع فايز في هذيانه قائلاً: “عندما أخرج من هذا البلد سأقابل بشار الأسد شخصياً وسوف أخبره بكل شيء.. لن أخبره عنكم، إنكم طيبون”، قال مشيراً إلينا، بينما صافحنا الرجل وخرجنا نذرع الطرقات كالمخبولين.
اقتصاد