هذا هو الحل الأمثل: اقتل صاحب الرأي الآخر، قبل أن تضطر إلى مواجهة انتشاره، قبل أن تضطر إلى قمع مظاهراته، قبل أن تضطر إلى قصف تجمعاته بالنيران والبراميل المتفجرة. المعلم الروسي يستبق مسيرة التلميذ السوري، ويتعلم من إخفاقات سنواته الأربع.
هكذا، يموت أبرز المعارضين الروس لسياسة بوتين، بأربع رصاصات في ظهره، وهو يتمشى مع صديقته، على بعد أمتار من الكرملين. وصحيح أن رصاصتين أخريين أطلقتا عليه، لكنهما لم تصيبا صديقته التي كانت ترافقه، فهو وحده المقصود، وهو وحده المشكلة التي كان يجب أن تأخذ طريقها إلى الحل والمقبرة.
وبوصفه خريج مدرسة “كي جي بي” السوفييتية العريقة، وقيصرا جديدا، تمكّنَ من استثمار الرجل المريض السوري، وساوم الغرب على ورطته الأوكرانية. يستطيع، الآن، أن يتنفس الصعداء، فيستنكر حادثة الاغتيال، ويتهم المؤامرة المدبرة خلفها، والتي لا شك أنها تسعى إلى تفجير الوضع الداخلي، وترتبط حتماً، كغيرها من المؤامرات، بالوضع الخارجي، الأوكراني المتوفر بوضوح شديد هذه المرة. ولا بأس من أن يكون هناك احتمال لتورط متشددين إسلاميين فيها، فقد أصبح ذلك شائعاً في كل مكان من العالم، ولابد أن يكون لهم في كل عرس قرص لا محالة، ما يناسب الإسلاموفوبيا المنتشرة، بل ويعززها بدون نقاش.
لم يكن القتيل المسكين بوريس بوستينوف صاحب رأي يحتفظ به لنفسه فقط، مثل كثيرين مساكين من عباد الله في عالمنا. بل كان صاحب رأي آخر. أي رأي مؤهل للانتشار والتأثير وسط الرأي العام الروسي، فقد كان نائباً لرئيس الوزراء في عهد يلتسين، وكان صاحب خطط إصلاحية، عندما كان حاكماً لإقليم نيجني نوفغورد، أحد الأقاليم الروسية الممتدة. فضلاً عن أنه كان من أكبر نقاد التدخل الروسي في أوكرانيا، وكان يحتفظ، في مكتبه، بوثائق تُثبت التورط الروسي في الحرب الدائرة هناك، ويعدّ لنشر تقرير موثق عنها، في فترة قريبة، كما زعم مقربون منه.
اختفت تلك الوثائق بالمصادفة، كما شهد أصدقاؤه، إثر مسارعة الشرطة الروسية وأجهزة أمنها إلى التحقيق في جريمة الاغتيال. وقد أتاح التحقيق القانوني العادي لتلك الأجهزة تفتيش كل ما يتعلق بالقتيل من ممتلكات وخصوصيات. وكان لا بد لنتائجه أن تسلم إلى لجنة التحقيق الأمنية الخاصة التي بادر وزير الداخلية الروسي إلى تشكيلها وترؤسها مباشرة، استجابة للأهمية والضجة المثارة حول الاغتيال، والذي لن يتمكن أحد من أصدقاء القتيل من الاستعلام عن وثائقه بطبيعة الحال.
هل كان ما حدث للمعارض الروسي القتيل فيلماً سينمائياً مثيراً مخرجاً على الطريقة الأميركية، أم عرضاً مسرحياً متقناً تحت أعين كاميرات المراقبة، وبحماية إجراءات الأمن المركزة حول أسوار الكرملين التي كان الراحل المسكين يستمتع بسير الهوينى على أرصفة محيطها؟
هل يستطيع أحد ما الجزم بأن أسرار مقتله ستنكشف، وهل سيعرف قاتله، الذي قد يظهر على هيئة أوكراني متعصب لروسيّته، أو ربما روسي آخر سيبادر إلى الانتحار، فور محاصرته وتيقنه من الإطباق عليه؟ أم سيحال ذلك إلى تقليد الانتحار على الطريقة السورية برصاصتين أو ثلاث؟
عندها، ربما سيصبح الأمر كله من قصص المافيات الغامضة، وأسرارها التي لا تنتهي، أسوة بقصص الانتحار السورية، وأشهرها ما حدث لرئيس الوزراء الأسبق، محمود الزعبي، ولوزير الداخلية، غازي كنعان، الذي كان مفوضاً أمنياً سامياً في لبنان. أو قصص الاغتيال الأخرى أيضا، وكان أبرزها مقتل محمد سلمان على شاطئ طرطوس، أو عماد مغنية، الرجل الثاني في حزب الله، الذي تفجرت سيارته على بعد عشرات الأمتار من المربع الأمني في كفرسوسة دمشق.
“المعلم الروسي يستبق مسيرة التلميذ السوري، ويتعلم من إخفاقات سنواته الأربع”
المهم، ما حدث في موسكو دليل على استحالة استمرار الرأي الآخر، والتعايش معه هناك، أو الصراع معه وفق الآليات الديمقراطية. لذا، لم تجد الدولة الأمنية العميقة، خلف كل مظاهر الدولة الروسية العصرية، بداً من استثمار آليات عمل المافيات. في حين أن الدولة السورية ربيبتها، وحديثة العهد بوراثة الديكتاتورية، فشلت في استثمار تلك الآليات مجدداً، بعد أن جربتها طويلاً، أمام الانفجار الشعبي المليوني المطالب بالإصلاح والتغيير، في مناخ ربيع عربي كان مواتياً. ولم تعد المسألة أمامها مسألة رأي أفراد، أو رأي آخر معارض، بل صارت مسألة اختيار شعب آخر بديل. وفعلاً، تمكنت، في ظل ظروف دولية وتحالفات معروفة، من تحويلها حرباً ضد الأكثرية، وإلى اصطناع شعب من أقليات مخترعة، عملت حثيثاً على إصابتها برهاب الخوف من شركائها في مشروع مواطنة، بدأ منذ الاستقلال عن بني عثمان.
يبقى أن قتل المعارض الروسي حدث على طريقة الأفلام، برشاقة الرصاص وإتقان الإخراج، ولقي، أو سيلقى، كل اهتمام عالمي وإثارة إعلامية يستحقها، بينما يقتل الشعبان السوري والعراقي، وتدمر مدنهما وقراهما، وطبيعة بلادهما، وآثارهما، بكل همجية وعنف بربري. والأغرب من ذلك كله أنه يحدث بصورة شبه منسقة بين نظم تدّعي العصرية، وسلفية داعش القادمة من عصور الظلمات، بل في ظل ضربات التحالف الدولي المعلن ضد الإرهاب، والتي تعمل كأوركسترا جنائزية رتيبة، يستمر عزفها فقط، بهدف الاستعراض.
نجاتي طيّارة – العربي الجديد