انتهت جميع المُهل والمماطلات الممكنة لتأخير تنفيذ قرار إنهاء الأزمة السورية، المُتخذ باجتماع فيينا منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، واقترب يوم المباشرة بالتنفيذ كثيراً. ولم يعد لدى الأطراف الدولية الشريكة بالأزمة السورية أي وقت لتغيير الموازين، فالحصاد تم، ووقت الرجاد حان، وسيقوم الجميع برجد حصاده إلى البيدر استعداداً لتحديد الحصص وفق الغلال. ولن تكون مهمةً بعد اليوم الحسابات التي اعتُمدت خلال سنوات الصراع، فحسابات الحقل، كما هو معروف، لا تُعتمد في البيدر. فالحساب الوحيد الذي سيتم اعتماده بين وزيري خارجية روسيا وأميركا هو حساب البيدر الحالي فقط.
لم يعد لدى الإدارة الأميركية، صاحبة مشروع إنهاء الأزمة السورية المندرج كأحد بنود مشروع القضاء على داعش، الذي اعتمدته فور هجمات باريس يوم ١٣ تشرين الثاني الماضي، سوى ثلاثة أشهر للانتخابات الرئاسية. ويتوجب عليها في هذه الفترة القصيرة تقديم إنجاز خارجي يدعم هيلاري كلينتون، المرشحة الديموقراطية لهذه الانتخابات. هذا فضلاً عن حاجة الرئيس أوباما إلى أن يحقق تقدّماً في حربه التي بدأها على داعش منذ قرابة السنتين ليغطي على ما أظهره التنظيم من قدرة على الوصول إلى غير بلد أوروبي، فضلاً عن تركيا وأغلب دول المنطقة. ولا يكفي الرئيس الأميركي تحقيق ذلك على الأراضي العراقية، على قلة الانتصارات هناك، بل يحتاج إلى تحقيق تقدم في سورية أيضاً. لكنه لا يستطيع ذلك بالقوات الكردية فقط المحصورة في مناطقها، فهو يحتاج إلى قوات عربية يمكن الاعتماد عليها، وبالتالي فهو يحتاج إلى إنجاز تسوية في سورية تتيح إمكان تعاون بين قوات النظام ومجموعات المعارضة «المعتدلة» لمباشرة معركة القضاء على داعش.
إضافة إلى الزمن الأميركي الضيق فإن اعتذار الرئيس التركي من موسكو عن إسقاط القاذفة الروسية في تشرين ثاني الماضي يساهم كثيراً بإنهاء المناكفات الروسية – التركية، بل من المحتمل أن نشهد إنهاء إشكاليات منطقة حلب وإدلب بعيد اجتماع الرئيسين الروسي والتركي المقبل. بل من المتوقع أن ينجم عن هذا اللقاء تعاون مشترك أوسع بين الدولتين بما يتعلق بالأزمة السورية ناجم عن حاجة الدولتين إلى بعضهما. فتركيا تجد في روسيا الدولة الكبرى الوحيدة الصامتة عن إجراءات اجتثاث معارضي حزب العدالة والتنمية الحاكم بعد فشل الانقلاب العسكري في تركيا قبل أيام. وذلك في مواجهة عدم الرضا الأوروبي والأميركي عن هذه الإجراءات، الذي يأتي ليزيد في فتور العلاقات الأميركية – التركية القائم منذ بعض الوقت، والذي ظهر بوضوح خلال مجريات معركة عين العرب (كوباني) قبل نحو السنتين. كذلك يزيد في فتور العلاقة بين تركيا وأوروبا التي ظهرت خلال المحادثات في موضوع اللاجئين.
روسيا بالمقابل تحتاج إلى تركيا لتُضعف أثر الاعتراض الأوروبي على دورها التنسيقي مع الولايات المتحدة. فقد حاولت بعض الدول الأوروبية، في مقدمتها بريطانيا وفرنسا، متعاونة ومستقوية ببعض الدول الإقليمية، كالسعودية وتركيا، الاعتراض على تهميش دورها من قبل الولايات المتحدة التي تقوم بتنسيق عال مع روسيا. فعقدت خلال الشهرين الماضيين اجتماعين أولهما في باريس وآخرهما في لندن قبل أيام، حيث أبدت رغبة متواضعة بألا يترشح بشار الأسد للانتخابات المقرّة في نهاية المرحلة الانتقالية، وفق قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤. متجاهلة بالمطلق مواقفها من موضوع الأسد خلال السنوات الخمس الماضية، بخاصة فرنسا التي كانت منذ ٢٠١١ تقول لنا بملء الفم: «رحيل الأسد شرط لبدء العملية السياسية»، ضاربة بعرض الحائط ما كنا نقوله: «يجب أن يكون رحيله نتيجة للعملية السياسية»، ظناً منا أن ذلك يمكن له أن ينجي البلاد من الخراب والدمار.
لا بد أن المصالحة الروسية التركية لعبت دوراً كبيراً في موضوع مشكلة جبهة النصرة، المشكلة التي كانت تعيق مفاوضات جنيف وفق اعتقادنا، خلال المحادثات التي أجراها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، في زيارته إلى موسكو ولقائه الرئيس الروسي واجتماعه «النوعي» مع وزير الخارجية الروسي. هذا على رغم أنه لم يتم الإعلان عن نتائج هذا اللقاء وتم الاكتفاء بالتسريب المقصود لوثيقة اتفاق تقني روسي – أميركي، لأنه لا يجوز الإعلان عن محادثات بخصوص النصرة غير آليات القضاء عليها كونها مصنفة جهة إرهابية بالقرارات الأممية ذات الصلة. لكن أغلب الظن أن الاتفاق كان على من له الحق بالاستيلاء على مواقع النصرة بعد تصفيتها (وفق تسريبات) أو القضاء عليها.
من المفترض ألا تعنينا كسوريين العلاقة الروسية – التركية، ولا الإيرانية – السعودية، ولا غيرها من العلاقات أو الصراعات بين الدول، إلا ما يؤثر منها في أزمتنا في شكل مباشر. فليس لدينا أي نقص في المشكلات يجعلنا ندخل في لعبة الاصطفافات الدولية الرجراجة. فعندما نقول، أو نقرّ، بأن محصّلات الصراع في سورية تجعل من روسيا الرابح الأكبر في التصفيات الحالية، فلا يعني هذا ترحيباً بها، ولا يعني أيضاً اتهاماً لها. بل هو مجرد توصيف لواقع الحال في البلاد، واستدعاء لوضع آليات للتعامل مع الظرف الجديد.
فبالنظر إلى طبيعة العلاقة القائمة الآن بين موسكو ودمشق يبدو أنها باتت بحكم وصاية مُحكَمة من موسكو على دمشق تقارب وضعية انتداب غير مسمّى. وهذا يستدعي منا كسوريين، أن نعرف كيف علينا التعامل مع هذا الواقع بمسؤولية تترفع عن لوم روسيا واتهامها بالمحتل، وتُقلع عن العتب على النظام أو محاولة إثبات عدم أهليته لإدارة تحالفات دولية تحافظ على السيادة الوطنية. إذ من المعلوم أن جميع تجاربه مع الدول الأخرى أثبتت أنه لا يستطيع أن يقيم علاقات طبيعية أو ندية، مع أي دولة، لهذا نراه إما يعاديها ويسبّها أو يخضع لها تابعاً صاغراً، كحاله الآن مع إيران وكما كان حاله سابقاً مع قطر أو تركيا.
لهذا فإن تمسك موسكو بالرئيس الأسد ليس خدمةً له بل تثبيتاً لمكانتها الجديدة في سورية. هذه المكانة التي ترى أنها تخدمها جيداً في مساعيها لتأكيد تموضعها الدولي كدولة عظمى، وليس كدولة غنية من خلال مقايضة الرئيس الأسد بـ «حصة في الشرق الأوسط» تجعل منها «قوة أكبر بكثير بالمقارنة مع الاتحاد السوفياتي»، وفق عرض وزير الخارجية السعودي.
فإن صح اعتقادي بأننا ذاهبون خلال الأسابيع القليلة المقبلة إلى تسوية سياسية باتّة تنهي مرحلة الصراع العنفي المنفلش في سورية، لتنقلنا إلى مستوى آخر من الصراع لم تتبدّ مظاهره في شكل واضح بعد، فإن علينا أن نعرف كيف نستفيد من تجربتنا المريرة في السنوات الخمس الماضية. فإن كنا نحن من بدأ هذه الحرب بمحض غبائنا وجهلنا، وعجِزنا لاحقاً عن إنهائها، فلنقبل الآن، بمرارة، أننا لسنا نحن من يرتب مرحلتنا الانتقالية المقبلة، لكن علينا أن نعمل منذ الآن لنكون سادة خواتيمها.
الحياة – لؤي حسين