في أواخر أيلول ذاك الشهر الذي يحمل في ذيلهِ أول أمطار السنة،
تقف مريم ذات الثلاثين خريفاً، تنظر للسماء السوداء سقف الأرض تارةً، وإلى ذاك السقف الأزرق سقف غرفتها تارةً أخرى.
عاشت مريم طفولتها بين أبٍ وأمٍ متناحرين، أودى بهما الخلاف للطلاق، تركت الأم بيت الزوجية وأولادها الصغار، مريم وأخاها الذي يكبرها بعامين..
تحكي مريم ذكريات تصفها بالكابوس.. تزوجت والدتي في قرية بعيدة تلبيةً لأوامر أخوالي، وتزوج والدي إمرأةً أخرى ..عاش الطفلين مع والدهما وزوجته خمس شهور في بيت المدينة ..
تصف مريم زوجة أبيها فتقول: أذكر ذاك اليوم كأنه الآن، امرأة قاسية، تجحظ بعينيها تسحبني من يدي الصغيرة بعزمها إلى الحمام، وبحجة تنظيفي تصب الماء المغلي على جسدي النحيل ..أو ربما أنزلته قبل أن يغلي بدقيقة
امرأة تحب نفسها حد الجنون، تقفل الثلاجة على الطعام، توبخني وأخي كلما أردنا أن نقضي حاجتنا.
هربت مريم وأخوها من بيت والدهما في المدينة إلى القرية إلى بيت أعمامها
تقول مريم: عشت حياة اللجوء منذ الصغر قبل أن نعرف اللجوء، قبل أن تدق الحرب طبولها
أعرف جيداً كيف هو شعور الذي لا يملك وطناً يوم كنا في قلب الوطن، أعرف شعور النازح من بيتٍ إلى بيت ترفضه العيون وتجرحه الكلمات وتذيقه التفرقة مر الحياة.
شاء الله أن يصاب والد مريم بمرض سرطان الرئة، ترك وظيفته وعاد للقرية.
تلتصق بذاكرة مريم صورة والدها المنهك، وصوت سعاله الذي كان يدمي روحها، ومنديله المليئ بالدماء، تحكي أوجاعها بذاكرة الطفولة:
هجرته زوجته، كانت تظن أن المرض معدٍ تخاف على نفسها وابنتها الشقراء الغضة أن يلحق بهما الأذى.
وبأنانية أبعدت نفسها عنه فزاد وجعا على وجعه ..اشتد مرض والدي وتهالكت رئتيه ، وأتى أيلول الكئيب بأوراقه الصفراء وشحب وجه أبي واصفر عوده
أخذ الموت والدي ، سقط كورقةٍ في خريف أيلول ..أصبحتُ يتيمة ..لم أكن أعي قسوة تلك الكلمة
عشت اليتم بين أولاد أعمامي مع جدتي الكفيفة عشت عشر سنواتٍ لم أعرف كيف مضت،
توقفت مريم عن التعليم بعد أن حصلت على الشهادة الإعدادية.
يشهدُ ذوو مريم أنها لم تكن كباقي الفتيات لم تراهق كما فعلن ولم تحب ابن الجيران ولم تستعرض لباسها بينهن،
تزوجت مريم في السابعة عشر من حسن، شابٌ بسيط من قرية مجاورة ..يعمل فلاحاً في هكتار أرض ورثها من والده مع إخوته.
تحكي مريم كم عانت في أول زواجها من سيطرة أم زوجها،
رزقت مريم بتوأم بنات ..كبرت البنتان وأصبح لمريم منزلٌ صغيرٌ تملكه إلى جانب قطعة الأرض ومحل ألبسة أصبح له شهرته في القرية.
وللغصة في صوت مريم بقية….
جاءت الحرب، تدمر المنزل والمحل وتشرد الشمل
وودعت مريم بحرقة وبعيونٍ أنهكها البكاء واليتم بقايا فرحةٍ لم تكتمل.
وفي أيلول من عام ٢٠١٤
لجأت مريم وعائلتها الصغيرة إلى مخيم أطمة على الحدود السورية التركية، عمل زوجها حسن سائقاّ لفترة ولكن مالبث أن تعرض لحادث أعاقه عن العمل..
بكت حظها مريم ألف مرة وتمسكت بالأمل ألف مرة
لجأت مريم لمركز تمكين النساء في المخيم، تتعلم الخياطة علها تعيل أسرة ً باتت لها الأب والأم.
حلّ الشتاء كأنه همٌ يزور مريم وبحرقةٍ تنظر للسقف الأزرق في غرفتها الصغيرة ..وأيلول الذي أخذ والدها وهجرها من بيتها يأبى أن يحلّ على تلك المرأة دون أن يحفر ندبةً في قلبها
من يصلحُ لمريم سقفَ غرفتها !؟
ومن يقول لأيلول والشتاء أن يمرّا بسلام!
ضحى خابور
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع