في الأهوار، جنوب العراق، تنفق أطنان من الأسماك في ظاهرة يعزوها مربو الأسماك إلى تسميم المياه وإغلاق بوابات النهر الذي يغذيها بصورة غير قانونية والمواجهات المسلحة.
ورث حسين سرحان (70 عاما) مهنة تربية الأسماك أبا عن جد في محافظة الديوانية الزراعية والقبلية. وهو يربّي أسماكه في هور الدلمج الذي يمتد على مساحة 326 كيلومترا مربعا، والذي نفقت فيه آلاف الأطنان من الأسماك.
يقول حسين بلهجة غاضبة لوكالة الصحافة الفرنسية “هذه فاجعة وكارثة بيئية”.
وبعدما كان هذا المزارع وعلى مدى سنوات، مثلما فعل أبوه وجده من قبل، يترقب موسم تكاثر الأسماك ليجني منه محصولا وفيرا، صُدم عندما شاهد الآلاف من أسماك الأهوار النافقة تطفو على السطح.
ويتابع “عندما رأيت السمك بهذه الحال، شعرت وكأن أحد أبنائي قد قتل… تحملنا خسائر مادية كبيرة، جهود أعوام من التربية والعناية راحت هدرا”.
ويعد هور الدلمج أحد أكبر المسطحات المائية الطبيعية التي تمتد في محافظتي الديوانية وواسط في جنوب العراق ويشكل موطنا لثروة حيوانية وسمكية متنوعة ولطيور مهاجرة ومستوطنة.
ولا يمكن التأكد من أسباب هذا النفوق الجماعي، لكن مربي الأسماك والصيادين يجزمون بوجود فعل جرمي وراءها.
وبلهجة متوترة، يقول حسين علي (37 عاما)، وهو صياد أسماك في محافظة واسط، “هناك عصابات تغلق بوابات الأنهر التي تصبّ في هور الدلمج، وتقلّل الماء على الهور، ما يهدد بنفوق الأسماك”.
ويضيف “كما أنها ترمي سموما لإبادته وتقتل الموارد السمكية في الهور”.
ويؤكد أن “هذه العصابات مسلحة وتهدد بقتل أي شخص يريد فتح سدودها”.
وبالفعل، وقعت بداية شهر أغسطس مواجهة بين مجموعة مسلحة وعشيرة تسكن المنطقة هبت للدفاع عن رزقها، وفقا لشهود.
وسبق ذلك تعرض لجنة حكومية تابعة للمحافظة لهجوم مسلح لدى محاولتها فتح بوابات وضعت على مصبّات المياه. ويثير هذا قلقا لدى الأهالي لعدم اتخاذ السلطات إجراءات لوقف هذه الأعمال.
ويتساءل علي “أين الدولة من كل هذه الكوارث التي تهدد بإبادة الثروة السمكية؟”.
ويطالب كثيرون من سكان هور الدلمج بتوقيف المسؤولين عن هذه الأعمال وبتعويض ألفي أسرة تعيش من هذا المورد.
ووقعت في 2018 حوادث مماثلة، عندما كان نوع من الأسماك ينفق بكثافة، وتحدث عراقيون عن عمليات تسميم.
ولكن في مارس 2019، خلصت الأمم المتحدة بعد تحقيق استمر أشهرا إلى أن أسماك الكارب تنفق بسبب إصابتها بفايروس الهربس الذي تكاثر على الأرجح بسبب تعكر المياه.
لجنة تحقيقية
وشكّل وزير الزراعة محمد الخفاجي هذه السنة لجنة تحقيق للوقوف على أسباب نفوق الأسماك. واستبعد تحقيق أولي وجود فايروس أو بكتيريا، وبالتالي عادت الاتهامات بتسميم المياه إلى الواجهة.
وقال الخفاجي “نحن مصرون هذه المرة على كشف الجناة وإعلانهم أمام الرأي العام مهما كانت النتائج”.
ويوجه البعض أصابع الاتهام إلى شركات تركية وإيرانية كانت تستورد عادة كميات كبيرة من الأسماك العراقية.
وساهمت الإجراءات الحكومية التي اتخذت للحد من انتشار فايروس كورونا المستجد في إغراق أسواق الأسماك المحلية بأنواع مختلفة بينها البني والكارب وغيرهما، بسبب وقف الاستيراد والتصدير، بما فيه غير القانوني.
وكان سمك البني يهرّب في السنوات الماضية بكميات ضخمة إلى دول الخليج المجاورة.
وقال الخفاجي إن الحكومة أرسلت قوات أمنية إلى المنافذ الحدودية بهدف حماية الموارد الزراعية والسمكية الوطنية ووقف الفساد والتهريب المستشري منذ سنوات و”حماية المنتج المحلي”.
وبالتالي، يقول أحد مربي الأسماك في هور الدلمج عماد آل مكرود “لم يتمكن المهربون من نقل أسماكهم إلى الخارج”. وخفض المربون “سعر الكيلو الواحد من عشرة آلاف إلى ألفي دينار” (من ثمانية دولارات تقريبا إلى حوالي دولارين)، فلقيت الأسماك إقبالا من العراقيين.
ويقول مكرود “خسرت تركيا وإيران، أول مصدرين للسمك إلى العراق، الكثير من الأموال”.
وقال الخفاجي “الاكتفاء الذاتي الذي تَحقق هذا العام وتوقف الواردات أمور لا تعجب الكثير من الحاقدين”.
جنة عدن
ولا تقتصر الأزمة على السمك. في هور الدلمج، تكسب عائلات كثيرة قوتها من تربية الجواميس التي يستخدم حليبها لتحضير قشطة محلية تعرف باسم “القيمر” وتعد أفضل وجبة أفطار في العراق.
وأُدرجت الأهوار بقائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) لمواقع التراث العالمي عام 2016.
ويقول أحد مربي الجواميس حسن الروشة “السموم التي ألقيت في مياه الهور قتلت حوالي خمسين جاموسة وتسببت في إجهاض أكثر من 135 منها”.
ودعت مديرة دائرة البيئة في محافظة الديوانية رغد عبدالسادة إلى الشروع في إحياء النظام البيئي للهور بالكامل ليستعيد تنوعه وخصوبته السابقة التي جعلت البعض يشبهه بـ”جنة عدن”.
وقالت “قمنا بالمسح الشامل للمناطق المتضررة والوقوف على حجم الكارثة وتم سحب عينات من الماء والأسماك لتحليلها في مختبراتنا لمعرفة الأسباب الحقيقية للفعل”.
ويقول الروشة “هذه كارثة لم نعرف مثلها من قبل”.
“الجاموس عزيز جدا (علي). عندما يمرض، أشعر بالقلق، خاصة عندما يبقى معنا لفترة طويلة”.. كلمات مؤثرة، على قصرها، قالها جعفر إسماعيل وهو يقف بجوار جاموسة صغيرة تتغذى على العلف في كيس معلق برقبتها.
كعادته كل صباح، استيقظ جعفر فجرا في منزله بأهوار الجبايش في جنوب شرق العراق، وأشعل نارا صغيرة وشرب الشاي على الشاطئ، بينما يتحلق حوله قطيع الجاموس الذي تملكه أسرته.
يقول جعفر “في الصباح، نحلب (الجاموس) ثم نبيع الحليب. بعدها أذهب بالقارب لأحضر له العلف. أعود له (بالعلف) وعندما يجوع يأكل منه”.
وتعيش أسرة جعفر على عوائد الحليب واللبن بعد أن يبيع إنتاجه للتجار في المنطقة لينقلوا معظمه خارج الأهوار بل وحتى خارج محافظة ذي قار التي تقع فيها أهوار الجبايش.
لكن بعد فرض القيود على السفر الداخلي للحد من انتشار فايروس كورونا المستجد، تراجع الطلب على الحليب وانهارت أسعاره، حسبما قال إسماعيل خليل، وهو رجل آخر من عرب الأهوار، بعد أن احتلب الجاموس بيده وحفظ الحليب في حاوية كبيرة.
وقال إسماعيل “الجاموس مصدر دخلنا… ليست لنا وظيفة أخرى.. هو (الجاموس) مهنتنا”.
وأضاف “تسبب تفشي الفايروس في إلحاق الضرر بنا كثيرا. انخفض سعر الجاموس. كما انخفض سعر الحليب أو انهار تقريبا بسبب حظر التجول…”.
وقبل اندلاع الأزمة، كان سعر 30 لترا من الحليب 28 دولارا.
وانهار الثمن الآن إلى 12 دولارا فقط. ولم يعد بإمكان المربين بيع إنتاجهم اليومي بالكامل.
وبعد مرور أربعة أشهر لم يستطع إسماعيل فيها توفير الاحتياجات الأساسية لأسرته، التجأ إلى بيع الحيوانات، على غرار رعاة كثيرين آخرين في مجتمعه.
ولكن سعر رأس الماشية انخفض أيضا منذ اندلاع أزمة كورونا، مما اضطر الأسرة إلى بيع حيواناتها العزيزة بثمن بخس.
وقال “لذلك، بدأنا في بيع حيواناتنا لشراء الطماطم واللحوم وغيرها…”.
من جانبه قال تاجر الحليب صادق محمد “يمكننا جلب الحليب من الأهوار من مربي الجاموس. ونبيعه في القرنة والمجير والمحافظات الأخرى. في الوقت الحاضر، لا أحد يشتري الحليب. لذا فنحن نأخذ كمية قليلة جدا…”.
لقد ظلت المنطقة لآلاف السنين موطنا لعرب الأهوار، الذين تمثل المياه مقوما أساسيا لاستمرار نمط حياتهم وأسلوب معيشتهم.
وجرت العادة على تصنيف عرب الأهوار إلى مجموعتين رئيسيتين حسب النشاط والعمل، وهما مربو جاموس الماء والمزارعون.
نقلا عن صحيفة العرب