اعتدت كل صباح أن أبدأ يومي بكعكة أبتاعها في طريقي لعملي من العم “أبو سالم”، حيث تفوح رائحة الكعك الطازج في أرجاء الحي وتشدك إليها لتشتريها برفقة كأس من السحلب الساخن بعبق القرفة.
“أبو سالم” رجل في الأربعين من عمره، ورغم أنه رجل فقير يجني قوته من بيع الكعك والسحلب إلا أن ابتسامته لاتفارق وجهه محاولا جذب الانتباه عله يبيع الكمية بأكملها، لكن شدني أمر يكرره كل يوم فساورني الفضول أن أعرف السبب في ذلك، إذ أنه يمسك “جرزة” من المفاتيح في يده ويقبلها بشغف بين الفينة والأخرى.
اقتربت منه وسألته بتردد، فقال لي بعد أن صمت قليلا وتنهد وكأنه يستجمع ذكرياته ويستعرض في مخيلته أحداثا لم تغب يوما عن باله:” يابنتي لكل مفتاح قصة وفي كل قصة غصة”.
لم أفهم ماتحدث، أمسك مجموعة المفاتيح وبدأ بأولها:” هذا مفتاح بيت أهلي أحتفظ به متمنياً أن أستخدمه يوماً وأفتح بابه، وأتذكر أغلى اللحظات لأم تغمرها الفرحة بعودتي، وتستقبليني لتأخذ ما أحمل وتدعو لي بدوام الصحة والرزق من الله فاقبل يداها ووجنتيها،
وأبا يجلس على أريكته الخاصة من يوم عرسه أدخل وأمازحه ويسألني كيف الأوضاع خارجاً، فقد أرهقه كبر السن وما عاد يخرج كثيراً من المنزل وبت مصدراً لتأكيد المعلومات التي يسمعها من التلفاز.”
وتابع حديثه وهو يقلّب مفاتيحه، وأمسك مفتاحا آخر مزخرفاً وتنهد…” هذا لدراجتي الآلية أشتاق لهدير محركها وحتى صوت زمورها فله إيقاع مميز، رغم أنها لم تكن بحالة جيدة ولكنها كانت تسليتي وأقضي بها أموري.”
وأما هذا لبيت عمتي هجرته منذ سنين وائتمنتني عليه لأسقي ورودها وأشجار الزينة، وكنت أستخدمه في حال اشتد القصف في حيي باعتباره طابقا أرضيا.
وهذا لبيت عمي رحل منذ سنين مع أولاده إلى تركيا ليجني رزقه ويعيش كريماً بعد أن هجر حيه الماء والكهربا واستحالت الحياة فيه.
وهذين المفتاحين لجيراني بالحي، رحلا كغيرهما أيضا وأخبراني إن زوجت اولادي يوماً أن أستخدم المنزل فأنا أولى من غيري.
وهذا وهذا، وقد كانت سلسة المفاتيح مزدحمة وكلها لأشخاص وأصدقاء هجروا بيوتهم وتركوها أمانة لديه وكأنه يحتاج هموماً إضافية في حياته.
ووصل لآخرها وصمت قليلا، هذا لبيت أخي لم أره منذ 3 سنوات اضطر لترك بيته بعد أن كثر القصف حول منطقته ولم يعد يجد عملاً يطعم أولاده.
وأخبرني أنه لم يعد يستخدمه بعد أن سد بابه بجدار من الآجر ليحفظه من السرقة.
“يا بنتي” يخاطبني بحسرة، “لم يعد لدينا إلا الذكريات لمدينة هُجرنا منها، وأخاف أن أنساها مع مرور الوقت ولكن كلما تلمست هذه المفاتيح تجتاحني وجوه أصحابها من أهلي وجيراني فتزيدني صبراً وعزماً أن أعود لتلك الحارات وأزورها.”
رغم أنني مدرك تماماً أن معظمها تهدم أو سرق أو استحله شبيح وربما باعه، ولكن تبقى ذكريات تمدنا بالحياة.
ومضى ينادي “سحلب سخن سحلب…، تازة ياكعك”.
المركز الصحفي السوري _ سماح الخالد