تستطيع أن تلاحظ في مدينة الريحانية التركية، القريبة من الحدود السورية، المعوّقين والمبتورة أطرافهم في شوارعها وأمام أبنية المنظمات ودور الاستشفاء على كراسيهم المتحركة أو يتوكأون على عكاكيز. شباب وأطفال، إناث وذكور، فقدوا أحد أطرافهم أو يعانون من حالات شلل متباينة، دلالة لا تخطئ على ضراوة ما يجري في بلادهم من عنف ومعارك.
يعلّم و يتعلّم بيد واحدة
أسامة، 24 عاماً، من دير الزور، شرق سورية، يقيم في مدينة الريحانية منذ ما يقارب السنة والنصف، يعمل كمدرّس في روضة، ويتعلّم اللغة الإنكليزية في أحد المعاهد التي تقدم خدماتها التعليمية بالمجان. يفعل كل ذلك بالإضافة إلى كافة شؤون حياته الأخرى – باعتبار أنه يعيش بمفرده هنا – بيد واحدة، حيث فقد يده في بداية العام 2014 لدى سقوط قذيفة لقوات النظام السوري بقربه، وذلك أثناء تغطيته لمعارك بين قوات المعارضة وقوات النظام حول مطار دير الزور العسكري، شرق دير الزور، حيث كان يعمل ناشطاً إعلامياً آنذاك.
ثلاثة مستشفيات في ريف دير الزور الشرقي اعتذرت عن تقديم المساعدة له لحظة الإصابة، لعدم توفر تجهيزات وافية، إلى أن وافق القائمون في المستشفى الرابع على استقباله، حيث تقرر بتر يده جراء تضررها بشكل كبير. يقول أسامة عن ذلك: بعد الإصابة لم أستطع العودة لمجال عملي إلا بعد أربعة أشهر مضنية، حيث اعتدت على الوضع الجديد، فيما لم أحمل الكاميرا مجدداً لتغطية المعارك. وبعد أشهر قليلة من الإصابة، سافرت إلى تركيا، بعد أن سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على دير الزور بالكامل.
20 ألف حالة وازدياد منذ بدء الضربات الروسية
زهير سويد، أخصائي فني، يعمل في “المشروع الوطني السوري للأطراف الصناعية” في مدينة الريحانية التركية، التقينا به في المركز الذي لا تفصله عن الحدود السورية إلا بضع مئات من الأمتار. يقول زهير: قام المشروع منذ إنشائه قبل سنتين ونصف بتركيب ما يقارب 1700 طرف صناعي علوي وسفلي للمعوقين، وبالتأكيد العدد الكلي يتجاوز عشرات الآلاف، ولكن لأسباب منها عدم القدرة على دخول الأراضي التركية، أو تركيبهم هذه الأطراف عبر منظمات أخرى، أو على نفقتهم الخاصة في تركيا، جعل المستفيدين من عملنا يقتصر على هذا العدد.
ويضيف: قبل خمسة أشهر تقريباً قام المشروع بإحصائية لأعداد المعوقين خلال السنوات الماضية في ريف حماة وفي حلب وإدلب، حيث تجاوز العدد الكلي للمصابين 20 ألف حالة، الغالبية العظمى منهم جراء استهداف الطيران الحربي التابع للنظام للتجمعات السكنية، يليهم المعاقون من المقاتلين المعارضين للنظام جراء المعارك.
من جانب آخر، يوضح الطبيب عبادة الأبرش، مدير إحدى دور الاستشفاء في مدينة الريحانية، أن هناك حالة ضغط على مراكز الاستشفاء ومراكز تركيب الأطراف الصناعية، منذ أن بدأ الطيران الروسي حملة قصفه على سورية قبل أكثر من شهرين، حيث ازداد القصف كثافة وقوة تدميرية.
يقدم المشروع أطرافاً مجانية للمصابين، حيث يتعاقد المركز مع شركات تركية لتجهيز هذه الأطراف بعد أخذ القياسات الملائمة للمستفيد منه، وتصل كلفة الطرف الواحد إلى ما يقارب 1000 ليرة تركية، أي ما يعادل أكثر من 300 دولار أميركي. أما بخصوص الأطراف الذكية والإلكترونية، فيؤكد زهير أن المشروع لا يستطيع احتمال المبالغ النقدية الباهضة لتركيب هذين النوعين من الأطراف، حيث تصل كلفة الطرف الإلكتروني لعشرة آلاف دولار أميركي مع مراعاة التفاوت في أسعاره بحسب الشركة المنتجة ونوع إعاقة المستفيد منه، أما الطرف الذكي فلا يقل عن عشرين ألف دولار ومع مراعاة الشروط السابقة، وهو يتفوق على الإلكتروني بعدة مزايا. ويضيف: طوال سنوات عملي في المشروع أو قبله لم أرَ أحداً استطاع تركيب طرف ذكي أو إلكتروني في سورية.
مشروع الألف طرف ذكي واستغلال لقضيتهم
بعد وصول أسامة لتركيا، قام ببحث دؤوب عن طريقة يتحصّل فيها على طرف ذكي، إلى أن التقى بمانح ورئيس جمعية خيرية خليجي الجنسية، أطلق مشروع “ألف طرف ذكي للسوريين”، بالتعاون مع منظمات أجنبية وبكلفة وصلت إلى 450 ألف دولار، وبعد انتظار أكثر من شهرين، استُدعي من قام بتسجيل حاجته إلى طرف من المعاقين السوريين، ومن بينهم أسامة حيث فوجئوا بوسائل الإعلام تعج في المكان الذي من المفروض أن تسلّم الأطراف فيه، إلا أن المفاجأة كانت أن الأطراف كانت عادية. يقول أسامة عن ذلك: فوجئنا بوسائل إعلام أوروبية وتركية ومحلية وصينية حتى، تجهّز لإجراء مقابلات معنا. وبعد إجرائها سُلّمنا أطرافاً عادية، وسط حالة من الحزن سيطرت على المعاقين، حتى أن بعضهم قام برميه بأقرب قمامة خارج المركز. اكتشفنا أن الأمر مجرد احتيال.
ويتابع: بإمكانك أن تعرف مقدار الخيبة عندما تعرف ما يمثله الطرف الذكي لمصاب. أحد هؤلاء، وهو فاقد كلتا يديه جراء إصابته، كان يحلم بالطرف الذكي كل ليلة طوال فترة انتظاره له، ويسرد لنا مجريات حلمه كل صباح، تصور مدى خيبته.
هجرة إلى أوربا على كرسي متحرك
أبو عمار، 43 عاماً، أحد الذين يتلقون علاجهم الفيزيائي في دار “إعمار” للاستشفاء في مدينة الريحانية، حيث يعاني من شلل نصفي جراء إصابته قبل أكثر من أربعة أشهر عقب إلقاء طيران النظام برميلاً متفجراً بالقرب من منزله في مدينة معرة النعمان، شمال سورية، ما أدى إلى تضرر عموده الفقري بشكل كبير جراء سقوط أحد جدران المنزل عليه. يقول عن ذلك: عشرة أيام فقط بقيت لأنهي علاجي الفيزيائي هنا، حيث تحسّن الجزء العلوي من جسدي فقط، لأعود إلى أهلي في سورية على كرسي للمقعدين. الأطباء يقولون إن تضرر النخاع الشوكي وصل إلى 70 بالمائة بما يستحيل معه علاج حالة الشلل النصفي التي وصلت إليها.
يرافق أبو عمار في رحلة علاجه إلى الأراضي التركية أخوه وابنه، ولكن آخرين لا يجدون من يساعدهم من ذويهم ويصبحون في الشارع بدون أي مساعدة بعد انتهاء فترة علاجهم، ما يدفعهم للهجرة إلى أوروبا رغم الإعاقة التي يعانون منها، وذلك بحسب أحمد أبو خالد، أحد الممرضين في دار الاستشفاء: خمسة من الذين أشرفت على علاجهم أصبحوا حالياً لاجئين في أوروبا، حيث دفعهم انسداد الأفق وانعدام المساعدة لهم في تركيا للهجرة، حيث يتكفل بعض المتبرعين بتكاليف سفرهم.
ويتابع: أحدهم كان يعاني من شلل نصفي وبعد أقامته للعلاج في تركيا لسنتين، لم تعد دور الاستشفاء تستقبله، ما دفعه للهجرة على كرسي المقعدين، وفي أثناء تهريبه هو ومجموعة أشخاص عبر البحر من تركيا باتجاه اليونان، غرق الزورق المطاطي الذي كانوا يستقلونه. ولولا وصول خفر السواحل اليوناني في اللحظات الأخيرة، لكان في عداد الموتى.
تبدو المساعدة التي تقدم لهؤلاء المعاقين والمبتورة أطرافهم في تركيا غير كافية، وهي تتركز على علاج ما أمكن علاجه، دون أن تتبع ذلك إعادة تأهيلهم اجتماعياً ودمجهم في المجتمع أو تعويضهم عمّا لحق بهم من ضرر، وهو تعويض هم بأمسّ الحاجة إليه حالياً نظراً لما يكابدونه من ظروف اقتصادية سيئة جراء إعاقتهم، حيث يؤكد المهتمون بشأنهم أنه لم يطرح حتى هذه اللحظة أي شيء بخصوص تعويض المعاقين والمقعدين جراء أو محاولة إعادة تأهيلهم اجتماعياً، وتتركز المساعدة على مساعدتهم على تقبّل إعاقتهم فقط.
العربي الجديد