ورقة بحثية بعنوان “الدفاع المقدس: سياسة الدفاع الايرانية خلال الحرب الأهلية السورية”
ضمن منشورات مركز جورج تاون للدراسات الأمنية، المجلد 4، العدد2،يونيو 2016
الباحث :جون ارتيربوري
تشكل الحرب الأهلية السورية تحدياً معقداً لمديري الأمن الإيرانيين، ويأتي ذلك بسبب العلاقة التاريخية الوثيقة مع سوريا وحاجة إيران إلى العمق الاستراتيجي.، ولهذا فإن إيران تبدي التزاما بالحفاظ على سيادة حكومة بشار الأسد، عدا عن نظرتها للصراع على أنه حاسم لمصالحها الأمنية في الشرق الأوسط.
وأثبتت إيران التزامها هذا على أرض الواقع عبر تقديمها دعماً كبيراً للحكومة السورية بمختلف المستويات، بدءً بالتدخل العسكري السري من القوات الخاصة الإيرانية وصولاً إلى نشر ميليشيات شيعية مدعومة من إيران لتقاتل بجانب القوات السورية التقليدية. ونظراً للمخاطر الوجودية التي لا تزال تحدق بحكومة الأسد وبالتالي نسبة المخاطر العالية التي تتعرض لها المصالح الإيرانية في المنطقة، فمن المرجح أن تحافظ إيران على مستوى الدعم للحكومة السورية أو لربما تلجأ إلى زيادته وتعزيزه في أكبر مشاركة عسكرية إيرانية منذ الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات.
مقدمة
تشكل العلاقة الإيرانية – السورية واحدة من أقوى وأضخم علاقات الدعم والإسناد في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. فالتحالف جاء إثر ضرورة تاريخية، وإبقائه سليماً يعود بالنفع مباشرة على الحكومة الإيرانية من نظرة استراتيجية أو أيديولوجية. ويشكل الحفاظ على هذا التحالف حجر الزاوية في السياسة الخارجية الإيرانية، وتهدف سياسة إيران تجاه سوريا لدعم وتنمية العلاقات بين البلدين طالما امتلك الأسد سلالة قادرة ومواتية لتبقى في مراكز السيطرة على البلاد.
وتمثل الحرب الأهلية السورية لحظة محورية في العلاقات بين البلدين، حيث قامت إيران بتوجيه سياستها تجاه سوريا كرد فعل مباشر على الصراع. وخلال قيامها بذلك، استخدمت إيران قوات بالوكالة للقتال في سوريا مثل حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية حيث ساهمت هذه المساعدة في لعب دور رئيسي في دعم التواصل والجسور بين سوريا وإيران.
ولفهم ديناميات العلاقة وكيف قامت إيران بتحديد سياستها تجاه سوريا، تسعى هذه الورقة لاستخدام مجهر نوعي لاستكشاف كيفية نشوء هذه العلاقة، ومدى ارتباطها بالمصالح الاستراتيجية، وكيف ساهم التورط الإيراني في التأثير بالحرب الأهلية السورية وكيف جسدت هذه العلاقة. وعبر هذا البحث سنخضع الفرضية العامة القائلة بأن التدخل الإيراني في سوريا جاء تحت أثر الخوف من تهديد داعش، بالإضافة إلى تحليل الأثر الذي خلفه التدخل الإيراني في مجريات الحرب. وأخيراً فإن هذا البحث يسعى إلى استكشاف الآثار المترتبة على سياسات إيران تجاه سوريا، وما يرتبط بها لمستقبل العلاقات بين البلدين على نطاق أوسع.
السياق التاريخي والاعتبارات الاستراتيجية
تمثل الدروس والتجارب المستفادة من الحرب الإيرانية – العراقية في ثمانينات القرن الماضي حجر الأساس للحكومة الإيرانية. فالصراع المذكور كانت أشبه بالتجربة التكوينية للنخبة السياسية والعسكري الحديثة في إيران، وما تزال المصاعب التي واجهتهم هناك محفورة في أذهان هذه النخب حتى اللحظة.1 فمناصرة النظام السورية للجمهورية الإسلامية الوليدة في إيران خلال تلك الحقبة الصعبة لم تكن لتغيب عن بال قادة إيران في العصر الحديث. ولوجود خلافات عميقة بين نظام البعث في سوريا والنظام العراقي حينها، فقد كانت سوريا واحدة من الدول القليلة التي تقوم بتزويد إيران بالأسلحة أثناء الحرب، على الرغم من وقوف الاتحاد السوفييتي بجانب صدام حسن ودعمه لمواجهة إيران.2
ويعود هذا الانقسام إلى الخلافات الأيديولوجية البعثية التي ظهرت على السطح خلال حقبة الستينات، حيث انتهج البعثيون السوريون طريقهم الخاص باتجاه اليسار السياسي وبعيداً عن الوحدة العربية، هذا عدا عن الكراهية الشخصية العميقة بين إدارات حافظ الأسد وصدام حسن وهو ما عمق هذا الانقسام.3 أظهرت سوريا حينها ولاءً كبيراً للثورة المحاصرة، وتعززت العلاقات بين النظام البعثي السوري والنظام الإيراني عبر العقود اللاحقة خاصة مع سعي إيران للحفاظ على نفوذها في العالم العربي وسعي سوريا لتحقيق توازن عكسي مع العراق.4 وبشكل واضح، ساهمت العلاقات الجيدة بين الطرفين بتقديم فوائد كبيرة وقدرات تشغيليه واسعة للإيرانيين، حيث توفر سوريا عادة وسطاً ودياً للدعم اللوجستي لحزب الله، حليف إيران الأول في بلاد الشام وآليتها الأساسية لمواجهة إسرائيل، بالإضافة إلى لعبه دوراً محورياً في السياسة اللبنانية5.
التحالف كان ذا منفعة متبادلة أيضاً، فمع احتفاظ سوريا بالدعم الإيراني، تمكن النظام السوري من المحافظة على دوره بوصفه صانع الملوك في لبنان على الأقل حتى عام 2005 والذي ترافق مع ثورة الأرز، ومن ناحية أخرى كانت العلاقة الإيرانية الودية بسوريا جزءً من الدعاية الإيرانية العدائية تجاه إسرائيل بالإضافة إلى ضمان الإيرانيين إلى امتلاكهم موطئ قدم في مناطق شرق المتوسط، ما يؤدي إلى تعزيز النفوذ الإيراني. وتستفيد إيران من علاقتها الوثيقة بسوريا في عملها لعقد موازنة هائلة مع العراق خلال السنوات التي أعقبت الحرب الإيرانية- العراقية، وحتى في ظل تغيير الديناميكية الأمنية مع العراق بشكل جذري، إلا أن العلاقات مع سوريا كانت في إطار ضمان حليف إقليمي يعارض – مثل إيران – تطلعات دول الخليج في المنطقة.6
وعليه فإن سقوط النظام السوري من شأنه أن يخلق حالة عدم استقراري جيوسياسي كبير، عدا عن قطعه للعلاقات الإيرانية مع حلفائها في بلاد الشام. ولهذا، كانت إيران مستعدة لانتهاج سياسة التدخل المسلح للدفاع عن وجود النظام السوري خاصة وأنه كان تعاني أزمة وجودية في ظل الحرب الأهلية.
تأمين السيدة زينت: السياسة الإيرانية في التدخل في الحرب الأهلية السورية
لا تزال الأولوية الأولى لإيران تتمثل في الحفاظ على النظام السوري الصديق لإيران سليماً معافى. ويبرز هناك فيلق القدس من الحرس الثوري الإيراني وقائده قاسم سليماني كأكثر الأدوات الإيرانية ريادة في العمل داخل سوريا حيث يقدم دوراً فعالاً في المشورة والدعم للحكومة السورية منذ شهر مايو 2011.7 فيما بدأ التدخل العسكري الإيراني الجدي في سوريا منذ عام 2012 حيث كان النظام السوري يعيش خطراً كبيراً تحت هجمات المتمردين المستمرة.
وبكل تأكيد ساهم التدخل الإيراني مدعوماً بالقوى الموالية لإيران في إنقاذ نظام الأسد من الانهيار.8 وتحت رعاية سليماني، تم إنشاء قوات الدفاع الوطني عام 2012، حيث باتت تجمعاً لعدد لا يحصى من الميليشيات المعروفة العامية الموالية للحكومة “الشبيحة” عدا عن القوات الاحتياطات الأخرى التي ساهمت في القتال ضد المتمردين السوريين إلى جانب النظام.9 ومنذ بداية عام 2013 بدأت قوات الحرس الثوري بلعب دور أكثر حركية في الحملات العسكرية المشتركة ضد المتمردين في مناطق شمال سوريا بالتنسيق مع الجيش السوري.10
ويملك الحرس الثوري الإيراني أيضاً علاقات مثالية مع الميليشيات الشيعية العراقية المتعددة، والتي تم حشدها لأول مرة ظاهرياً تحت لواء رعاية وحماية المراقد الشيعية المقدسة في سوريا مثل مرقد السيدة زينب في دمشق.11 وتعد كتاب الإمام علي واحداً من أبرز الأمثلة على هذه الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، حيث دخلت هذه الكتائب إلى الساحة السورية لأول مرة في عام 2014 تحت قيادة عضو حزب الدعوة العراقي المخضرم، والمنتسب منذ فترة طويلة لفيلق القدس أبو مهدي المهندس. ومن الجدير بالذكر هنا أن ظروف تكوين الميليشيات الشيعية في إطار صراعات قوى داخلية عراقية جعلها غير خاضعة بالمطلق للسيطرة الإيرانية سواء من حيث الحجم أو التوجه أو التحركات.12
ولا تزال تحتفظ هذه الميليشيات بمستوى من الاستقلالية والاستجابة الغريزية لتطورات الأحداث في العراق أولاً وقبل أي شيء.13 وبالتزامن مع ذلك، دعم الحرس الثوري الإيراني نشر لواء من المقاتلين الأفغان في سوريا تحت مظلة لواء فاطميون. تم تجنيد هؤلاء المقاتلين الأفغان في مخيمات اللاجئين في إيران وفي مجتمعات الشتات الأفغاني الشيعية، ويعمل لواء فاطميون بشكل مستقل نظرياً عن الحرس الثوري الإيراني، لكن اللواء أبدى انتماءً وثيقاً مع الجهاز الأمني، سواءً من خلال جنازات مقاتليه التي تتم في طهران وبحضور من أفراد الحرس الثوري أو من خلال التنسيق العالي مع مقاتلي الحرس الثوري في ساحات المعارك في سوريا.14 ووفقاً لموقع بارز موال للنظام السوري، فقد وصل ساهم مقاتلو لواء فاطميون بالاشتراك مع قوات الحرس الثوري الإيراني في الحملة التي نظمت في مارس الماضي لاستعادة السيطرة على مدينة تدمر التاريخية من أيدي مقاتلي داعش، وطبعاً كان التدخل الروسي حاضراً في تلك المعركة.15
والأهم من ذلك، تمثل هذه الحملة المشاركة الأوسع بين قوات الحرس الثوري والقوات المرتبطة به في المعارك ضد داعش في سوريا حتى الآن. ونتيجة لعمق التداخل الحاصل بين الحرس الثوري والنظام السوري، يبدو أن الميليشيات المتحالفة مع إيران باتت تتمتع بإمدادات كبيرة من الأسلحة الجديدة والعتاد. وقد شوهد مع مقاتلي لواء فاطميون دبابات من طراز T-72 و T-90 وهذه الأخيرة كانت روسيا قد قدمتها في الآونة الأخيرة للنظام السوري وحلفائه.16
حزب الله من جهته بدأ تورطه في سوريا في أوائل عام 2013، وأعلن ذلك على الملأ في أوائل الربيع من ذلك العام. ويعتقد أيضاً أن حزب الله ساهم بتقديم دور استشاري منذ اندلاع الاحداث في سوريا بداية عام 2012.17ويعمل حزب الله جنباً إلى جنب مع الحرس الثوري الإيراني في ساحة المعركة السورية بغية تحقيق هدف إيران من دعم النظام السوري خلال الحرب الأهلية.
ومن الجدير ملاحظته هنا أن قوات الحرس الثوري الإيرانية لم تتدخل في اشتباكات داخل المناطق النائية في سوريا مثل دير الزور أو الحسكة أو القامشلي، وهي المناطق التي تحافظ فيها قوات النظام على تواجد محدود داخلها.18 ولعل هذا يشير إلى وجود مستوى قوي من البراغماتية العسكرية لدى جزء من قوات الحرس الثوري الإيراني في تصور وتنفيذ الأهداف التكتيكية والتشغيلية الواقعة في ظل السعي لتحقيق استراتيجية كبرى لتأمين مراكز النظام السوري، رغم كل الخسائر البشرية التي تكبدها الحرس الثوري حتى الآن.19 ورغم امتلاك الحرس الثوري لعقدية قتالية كبيرة وارث تكتيكي كبير يتمثل في خبرة الخنادق وميادين القتال، كإرث ناله من الحرب بين العراق وايران، إلا أنه مع ذلك فقد عدداً كبيراً من كبار الضباط خلال العمليات القتالية في سوريا بما لا يتناسب مع خبرته.20 وحتى الآن لم تؤت شائعات سحب الحرس الثوري الإيراني من سوريا أكلها على أرض الواقع.21
انصار علي: اعتبارات عقائدية في العلاقات السورية – الإيرانية
يمتاز حزب البعث السوري الحاكم بأنه حزب علماني نظرياً ويناصر القومية العربية، وهو ما يشير بشكل سطحي إلى صعوبة التعايش مع النظام الثيوقراطي الإيراني.22 هذا بالإضافة إلى انتماء الأسد إلى سلالة الأقلية العلوية في البلاد، وهو ما جعل تخويلهم بالحكم على مدى 4 عقود مسألة غير مناسبة.23
يوصف العلويون بأنهم شيعة غير تقليدية، أو هم “متمركزون حول علي”. وتاريخياً، كانوا خارج نطاق التيار المذهبي الشيعي. وحاول علماء النجف الشيعة جعل العلويين جزءً من الشيعة الإثنى عشرية التقليدية وبدأت هذه الجهود منذ عام 1940 وصولاً إلى 1970 حيث نجح الإمام الصدر من مقر إقامته في قم الإيرانية ببذل جهود كبيرة بغية إدماج الطائفة العلوية.24
وفي حين لا يزال العلويون مختلفون عن المذهب الشيعي السائد في إيران، تجاهلت الحكومة السورية العلمانية الخلافات في اللاهوت الموجودة بين الفرقتين، في حين أكدت الحكومة الإيرانية على التراث الإسلامي المشترك بين الشيعة والعلويين. من غير المرجح أن ترى أي من هاتين الجهتين الأخرى متدينة بشكل مباشر بحد ذاتها، لكن المرابح الاستراتيجية والتاريخية بإمكانها أن تكون أكبر من الخلافات والاعتبارات الأخرى، وهو ما سمح للبلدين بالمطالبة في إدراجهما سويا ً تحت مظلة واسعة من الإسلام الشيعي.25 ولترسيخ هذا، أكدت القيادة الإيرانية على ضرورة حماية المراقد الشيعية في سوريا، وفي تكرار لصدى دعواتها إبان الحرب العراقية – الإيرانية، رددت الحكومة الإيرانية خطاب الضرورة للقتال من أجل “الدفاع المقدس” عن الأراضي السورية.26 ولعل هذا المنطق يختلط مع مفاهيم أعمق في الهوية الإيرانية على النحو الذي اقترحه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية “علي خامنئي” بأن الحروب الجارية في الشرق الأوسط هي محاولات أوسع لإقصاء الجمهورية الإسلامية.27
لعب الدين دوراً رئيسياً أيضاً في تحفيز المتطوعين الأجانب من الطائفة الشيعية للقتال بالنيابة عن حكومة الأسد، سواء أكانوا من العراق أو باكستان أو حتى من بين اللاجئين الأفغان المتواجدين في إيران.28 ومن وجهة نظر دولة إسلامية شيعية المذهب كإيران، فإن النظام السوري ساعد في تشكيل بيئة صديقة للشيعة، والحفاظ على مثل هذا الحليف الوثيق في عصر الطائفية المتزايدة يعتبر مصلحة وطنية أساسية.29 وعلى هذا النحو، كان التراث السوري الشيعي الغني يبشر بحكومة صديقة للشيعة وكذلك كانت العلاقات بين ايران والنظام السوري.
وبمحاذاة سياسة إيران الصديقة للشيعة، ظهرت داعش على أنقاض تنظيم القاعدة في العراق، وأخذت تتوسع على أراضي العراق وسوريا وغيرت كثيراً من البنية الأمنية في الشرق الأوسط. وبدافع من الايديولوجية “التكفيرية” التي تعلن المسلمين خارج نطاق ولاية داعش على أنهم مرتدين، حاز مقاتلو داعش استياءً كبيراً تجاه الشيعة الذين ينظرون إليهم على أنهم مشركون، وحجزت داعش استياءً كبيراً تجاه حكومة إيران، حيث تشبها داعش بالدولة الصفوية القديمة.30
الخوف من داعش انتشر على نطاق واسع في إيران، وأبدى القادة الإيرانيون خشيتهم من قدرة داعش على تقويض “محور المقاومة” الذي أسهمت إيران وسوريا وحزب الله بتأسيسيه.31 وتتفاقم هذه المخاوف لتصل إلى فكرة إمكانية تقدم داعش بما فيه الكفاية في العراق لتصل إلى أقدس المقامات الشيعية 32.هذا القلق يعني أن التدخل ضد داعش ومحاربتها أصبح مسألة ذات شعبية كبيرة بين عامة الجمهور الإيراني.33
ومع ذلك، ومن وجهة نظر لوجستية بحتة، فإنه من غير المعقول أن قتوم داعش – التي لم تمتلك يوماً حدوداً مشتركة مع إيران- باختراق بلد ذا أغلبية شيعية بحجم إيران والاستيلاء عليه، خاصة مع امتلاك إيران لجيش نظامي كبير وبنية تحتية استخباراتية قوية. هذا عدا عن أن هذا الأمر يتطلب مرور داعش عبر مناطق الحكم الذاتية في العراق، وبدلاً من ذلك تركز داعش في هجماتها في العراق وسوريا على تهديد استقرار ومتانة الحكومات المعنية والقادرة على تمديد هيمنة إيران في الشرق الأوسط.
وبكل تأكيد فإن تمكن داعش من رفع رايتها السوداء على الأضرحة في دمشق وكربلاء سيتسبب في إحداث أصداء كبيرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، لكنها مع ذلك لا تهدد المواطنين الإيرانيين بشكل مباشر، ويمكن النظر إلى الانهيار المحتمل للحكومات السورية والعراقية على أنه يهدد المصالح الاستراتيجية بالمعنى التقليدي، وعليه فإن جزءً من هذا الاعتبار الاستراتيجي المهم شكل السياسة الإيرانية في أولوية دعم النظام السوري.
وبشكل علني وواضح، تابع أعضاء الحكومة الإيرانية بما في ذلك المرشد الأعلى وإدارة الرئيس حسن روحاني، منذ عام 2014 على الأقل بكل وضوح صيغ التدخل في سوريا، واعتمدوا صيغة مكافحة “التكفيريين” الذي يعلنون ردة الآخرين لوصف جميع المتمردين السوريين.34 ولا يمكن اعتبار هذا التوصيف صحيحاً، فغالبية المتمردين السوريين خارج إطار داعش لا يصح عليهم وصف التكفيريين. وفي حين يمكن أن يصح هذا الوصف على جماعات جهادية متشددة مثل “جبهة النصرة” وجند الأقصى والحزب الإسلامي التركستاني، فإن الجزء الأكبر من معارضي بشار الأسد بما في ذلك الإسلاميين كأحرار الشام وجيش الشام وأجناد الشام وذلك الجماعات المنضوية تحت راية الجيش الحر كجيش النصر وفيلق الشام وقسم -13، كل هذه الجماعات لا يمكن بأي شكل وصفها بالتكفيرية.35
وعليه، في خضم التطبيق العملي، لم تكن داعش الهدف الأساسي من العمليات القتالية للحرس الثوري الإيراني في سوريا. بينما كان الحرس الثوري فعالاً ضد كوكبة من قوات المتمردين السوريين قرب حلب، بما في ذلك القوات العلمانية والإسلاميين المتشددين، ونادراً ما وقعت مواجهة قتالية بين قوات داعش وقوات الحرس الثوري الإيراني في سوريا باستثناء حفنة قليلة من العمليات الفردية، مثل إعادة فتح الطريق الواصل بين حلب وحماه بعد استيلاء داعش عليه، او في خضم تحرير مدينة تدمر الأثرية من سيطرة داعش.36
لم تشارك القوات الإيرانية في المعارك في جنوبي سوريا أو قرب مدينة دمشق وضواحيها، ولم تساهم كثيراً في محاولات النظام السوري استرجاع البنية التحتية النفطية والغاز من أيدي داعش. وعلى هذا، فإن حلب وضواحيها شكلت محور التدخل العسكري الإيراني في سوريا، وشكل ذاك المسرح التحدي الأصعب أمام النظام السوري
جل انتصارات ايران في سوريا وقعت في أوائل عام 2016، وشملت على سبيل المثال الاستيلاء على مساحات واسعة من الريف الذي يسيطر عليه الثوار جنوب مدينة حلب، فضلاً عن كسر حصار الثوار على القرى الشيعية في المنطقة (نبل والزهراء) في مناطق شمال وغرب حلب.37 نفذت الحملات المذكورة باستخدام عناصر خاصة من الحرس الثوري الإيراني، وحظيت بدعم جوي روسي كبير، وتغطية هائلة في الصحف الإيرانية. واعتبرت على أنها انتصار كبير للنظام السوري، رغم أنها لم تكن تستهدف داعش أبداً.38
ولتأكيد هذا التفاوت في نشر القوة، كانت حملة قوات النظام التي بدأت في أواخر العام 2015 والتي جاءت لكسر حصار داعش على قاعدة كويريس الجوية شرق مدينة حلب، لم تحظى تلك الحملة بمشاركة واضحة من الحرس الثوري واقتصرت بشكل حصري تقريباً على وحدات النخبة التابعة لجيش الناظم السوري بالإضافة إلى دعم جوي روسي.39 وخلال هذا الهجوم، كانت القوات الإيرانية تركز بشكل أساسي على استعادة الجناح الجنوبي من مدينة حلب والذي كانت تحت سيطرة المعارضة السورية (لم يكن هناك وجود لداعش في تلك المنطقة).40
ولعل الحادث الأكثر دموية لإيران والقوات المتحالفة معها كان ما حدث خلال شهر مايو 2016 في بلدة خان طومان جنوب حلب إثر اشتباكهم مع مقاتلين من جيش الفتح، وهو ائتلاف فضفاض من المتمردين الإسلاميين المتشددين الذين لا يملكون علاقة بداعش.41 وتم التأكيد فيما بعد على أهمية مكافحة إيران للجماعات التي لا تنضوي تحت لواء داعش خاصة بعد خسارة خان طومان تلك، وهو ما أكده مستشار المرشد الأعلى علي ولايتي في تصريح له حين قال أن دور الأسد كرئيس للحكومة السورية يعد خطاً أحمراً بالنسبة للإيرانيين وهو ما يدلل على الالتزام الإيراني تجاه النظام السوري لمحاربة التهديدات الوجودية المتنوعة بغض النظر عن المتسبب بها.42وبالمثل، بدأ التدخل العسكري لحزب الله في سوريا قبل عام من سقوط محافظة الرقة بأيدي داعش، وتركزت عمليات الحزب في المجمل على إعادة احتلال جيوب الثوار على طول الحدود السورية اللبنانية وحشد وسائل الدفاع عن المدن التي يسيطر عليها النظام في وسط سوريا. وعند النظر إلى الدافع الايديولوجي لسياسة إيران في سوريا، فسنجد بما لا يدع مجالاً للشك أن دافع التضامن مع الشيعة والدفاع عن الأولويات الاستراتيجية الإقليمية بشكل عام كان وراء هذا التدخل، ولم تكن داعش مسببة أساسية له. ويرى بعض المراقبين الشيعة أن تدخلات إيران أثمرت فعلياً بالدفاع عن رفقائهم هناك وهو ما حدث من فك حصار القرى الشيعية في مناطق شمال غرب حلب على سبيل المثال.43
الآثار المستقبلية
يحدث الدعم الإيراني لسوريا فور تقاطع العباءة الأيديولوجية للنظام الإيراني مع المصالح الاستراتيجية للبلاد. ووفق هذه الحسابات فمن المرجح جداً أن تبقي الحكومة الإيرانية وتحديداً الحرس الثوري على ولائها لنظام الأسد في سوريا خلال المستقبل المنظور. فالحفاظ على سوريا الصديقة لإيران هو المفتاح للمصالح الاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، فضلاً عن الحفاظ على الشرعية الأيديولوجية لإيران كمدافع عن الإسلام وعدو لما تعتبره تطرفاً سنياً.
ونتيجة لذلك، فمن المرجح أن يظل الانخراط الإيراني في العمليات داخل سوريا مستمراً طالما ظلت هذه التهديدات حاضرة في العقلية الأمنية الإيرانية. ولن تتوقف إيران عن تدخلاتها هذه إلا في حالة أصبحت تكلفتها عالية عليها، ولكن نظراً للأهمية التي تمثلها سوريا بالنسبة لإيران، فإنه من المرجح أن تصمد إيران أكثر حتى لو واجهت مستوى أبعد من الخسائر الحالية بكثير.
أما الميليشيات الشيعية في سوريا فيبقى دورها أقل وضوحاً، وفي حين أنها تملك أدوراً محددة في العراق ويمكن ان تعود إلى هناك مستقبلاً، يبقى دورها حالياً غير محدد بوضوح في سوريا المستقبلية. هذا عدا عن أن التواجد العالي لأفراد الميليشيات الشيعية في مناطق ريف حلب الجنوبية يثير الكثير من الأسئلة على المدى الطويل عن عودة المجتمع النسي السوري إلى هذه المناطق بعد هدوء القتال.44 مثل هذه الموقف يمكنها من الناحية النظرية أن توفر مزيداً من الفرص للتدخل الإيراني في نسج الحياة السياسية السورية مستقبلاً.
الأهم من كل هذا، أنه وبعد وقف إطلاق النار، من المرجح أن تملك إيران رأياً أكثر مباشرة في الشؤون الداخلية السورية. حيث ستسعى طهران للحفاظ على حكومة صديقة لإيران في دمشق، وهي فعلياً وجدت حليفا مطواعاً وموثوقاً به في عائلة الأسد. والحرب الأهلية الحالية قربت البلدين كثيراً، لكنها بكل تأكيد وضعت سوريا في مديونية عالية لإيران وهو ما يعني توسيعاً لفرص إيران المتاحة داخل البلاد. وفي المستقبل القريب نسبياً، قد يبدأ أعضاء الحرس الثوري جهود إعادة الإعمار وتحصيل عقود مربحة في سوريا المستقرة لتعميق البصمة الإيرانية، وهو ما سيساعد نظام الأسد أو- نظام شبيه به- بسيادة البلاد.
على الجانب الآخر، في حال سقوط حكومة الأسد، فلا يمكن توقع أي خلفية ودية للعلاقات بين إيران والمنتصرين، ومن المرجح أن يعاني الحرس الثوري الإيراني من انتكاسة كبيرة في العلاقات الإيرانية – السورية ويعيدها إلى أجيال إلى الوراء، خاصة إذا ما تمكن العرب السنة المظلومون من السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد.
وعلى الرغم من ورود هذا الاحتمال، إلا أن العلاقات الإيرانية السورية لا تزال صامدة حتى الآن ومن المرجح أن تشكل الحرب الأهلية ونتائجها حدثاً فاصلاً يمتلك تداعيات طويلة الأمد على العلاقة بين الدولتين مثلما كانت الحرب العراقية الايرانية في الثمانينات كذلك.
جون ارتيربوري