” و الله هدّلّي حيلي والله، كلّه بكفّة وبُعدي عن أهلي بكفّة ” .. هذا ما قالته (داعية الله إبراهيم) وهي تنظر إليّ بانكسار، والّدمعُ يملأ عَيْنَيْها الخَضراوَيْنِ الحزينَتَيْن، و حَشْرَجَةُ صوتِها تبوحُ لكَ بألفِ حكايةٍ وحكاية عن معاناتها مع مرضها وغربتها، فضلاً عن وحدتِها التي تعيشُها في غرفةٍ لا تتجاوزُ المترين، غرفتُها التي بالكادِ تتّسعُ لسريرها، وخزانتِها الصغيرة، وكرسِّيها المتحرّك.
يُعدُّ مرضُ السّرطان أو ما يُعرف بـ (الورم الخبيث) من أهمّ المشكلاتِ الصحيّة وأخطرِها في عصرنا الحالي، وقد تفاقمَ هذا المرضُ و زادَ انتشارُه بشكلٍ ملحوظٍ بينَ الفئاتِ العمريَّةِ كلِّها صغيرِها وكبيرِها، نَظراً إلى تغيُّرِ نمطِ الحياة، و نوعيّةِ الغذاء و أسبابٍ أخرى.
السّرطانُ مرضٌ يصيبُ الخلايا التي تُمثّل الوحدةَ الأساسيّةَ في بناءِ الجسم، و يحدُثُ نتيجةً لِتَلَفِ الجيناتِ التي تتحكمُ في إنتاجِ خلايا جديدةٍ في الجسم بشكلٍ مستمرٍّ حتى تتمُّ عمليةُ النُّموِّ، واستبدال الخلايا الميتة، أو لمعالجة الخلايا التّالفة بعدَ الإصابةِ بجروح، و قد تؤدي هذه الجيناتُ التّالفةُ إلى تصرّفِ الخلايا بشكلٍ غيرِ طبيعيٍّ، فَتَنْمُو مكوّنةً كتلةً يُطلَقُ عليها (الورم).
وقد يكون الورم حميدا، أو خبيثا، ومن المحتمل أيضاً أنْ تتحوّلَ بعضُ الأورامِ الحميدةِ إلى خبيثةٍ إذا لم يتمَّ علاجُها، الأمرُ الذي سيتغيّرُ معهُ مسارُ حياةِ مريضِ السّرطان المملوءةِ بالألم، فضلاً عن المعاناةِ التي يعيشُها جرّاءَ تبعاتِ الاستئصالِ وما يترتَّبُ عنها من تشوّهاتٍ جسديّةٍ وضغوط نفسيّة.
داعيةُ الله الإبراهيم ابنةُ الـ (22) ربيعا، التي أخذتْ من خضرةِ إدلب لوناً لِعَيْنَيْها، تدْرُسُ الشّريعةَ، تحلمُ بالتّخرّج، فجأة مرضتْ، سكنَ السّرطانُ نقيَّ عظامِها، وشلَّ حركتَها، انهارَ الحلمُ، وتبدّدَتِ الأماني، تركتْ داعيةُ جامعتَها وأهلَها وذكرياتِها وأحلامَها، وحطّتْ رحالها في تركيا، تتابعُ علاجَها وحيدةً غريبةً مُنكسِرة، تقطّعتْ أوصالُها، لا أهلٌ، ولا مأوى، تبكي، تشتاق، تتوجّع، تقطنُ داراً للجرحى تعجُّ بالمرضى والمُنْكَسِرين، ويخرجُ من بينِ جُدرانِها الأَنينُ.
“داعية عم تبكي ومكتئبة” هذا ما قالته ابنةُ عمّي التي رافقتني إلى دار الجرحى، أسرعْتُ إليها، استأذنت، ودخلتُ غرفتَها، رمقتني بحزنٍ عميقٍ، أطْرَقتْ ثمَّ قالت بحرقةٍ: “سنة ونص، والله سنة ونص، صرت عم أتخيّل أمّي تَخيُّل.. في فرق” .. عبّرت بهذه الكلمات عن شوقها لوالدتها، وأنّ هناك فرقاً بين عناية الأمّ وعناية غيرها.
تتابع داعيةُ كلامَها بصوتٍ مخنوق: “والله لحالي روح .. لحالي .. روح على أنطاكيا عالمشفى لحالي .. بفوت عند الدكتور لحالي .. بروح عالمكان اللي بيبعتوني عليه لحالي .. بظل أفتل لألاقيه ” ولَكَ أنْ تتخيّلَ حجمَ المشقةِ التي تبذلها وهي على كرسيّها المتحرك، وحيدةً، في مدينة غريبةٍ، تجهلُ لغتَها، وعاداتِها، فضلاً عن التكاليفِ الباهظة.
تُواصِلُ داعيةُ حديثَها عن معاناتها فتقول : ” مشكلة السّكن، بدّك حدا يخدمك، يساعدك، إنّك تكوني بنت لحالك بتركيا صعب، لازم تكوني قد حالك “، سألتها ماذا تتمنى فأجابت : ” الله لا يطِبْ حدا من حيلو، والله لا يبعد حدا عن أهلو، و الله لا يحِيْج حدا لحدا “.
مشيرة إلى عجزِها وشوقِها وحاجتِها إلى أمّها، فجأةً يقطعُ حديثَنا صوتُ سُعالٍ آتٍ من الغرفة المجاورة، يخترقُ اللوحَ الخشبيَّ الفاصلَ بين الغرفتين. إنّه صوت (نجديّة).
نجديّة معّاط الحزّوم، (40) عاما، من حماة/ عقيربات، أرملةٌ، أمٌّ لستة أطفال، مريضةُ سرطان، استأصلتِ الورمَ في إحدى مشافي الشمالِ المحرّر، ذهبت إلى تركيا للعلاج، و تركتْ صغارَها الأيتامَ في سوريا عندَ أحدِ أقربائها، تسكنُ نجديّة في دار الجرحى، تأخذُ جرعاتِ الكيماوي منذُ سنة ونصف، وماتزال.
تنظرُ في وجهِها فَترى أخاديدَ من الحزنِ والألم، تقرأُ في عَيْنَيْها الحزينَتَيْنِ قصةَ معاناتِها مع المرض، وشوقِها إلى أطفالها، وقلقِها عليهم، كانتْ نجديةُ تعيشُ في بيتها سعيدةً برفقة زوجِها وأطفالِها، دمّرَ جيشُ النظامِ الأسديِّ منزلَهم، واحتلّ قريتَهم، وهجّرَهم إلى شمالِ إدلب، سكنوا في المخيّم، ماتَ زوجُها، باتتْ وحيدةً مع أطفالِها، أُصيْبَتْ بالسرطان بعدَ سنتين من نزوحِها، لا تقلُّ معاناتُها عن غيرِها من مرضى السّرطان الذين يعيشون آلاماً نفسيّة وجسديّة جسيمة.
عندما سألتُها عن حالها قالتْ : ” أنا عندي أيتام صغار مالهم حدا يعين بيهم، ولا يصرف عليهم”، و عندما سألتها عن شعورها أجابت : “ضيق وقلق واكتئاب في الدّار، نشتري الأكل على حسابنا، وأجارات الروحة والرّجعة، وتكلفة الطريق والعلاج على حسابنا “، سألتها عن أمنيتِها في الحياة فأجابتْ : ” نتمنى نقدر نروح على بلادنا ونشوف ولادنا، أتمنى أن الله يشافيني ويعافيني، ويرجّعني على ولْدِي، أو حدا يساعدني من أهل الخير ويجيبولي ولْدِي”.
لاتتوقفُ قصصُ الوجعِ والألم في هذه الدّار، فبينما كنتُ أستمعُ إلى ما تقولُه نجديّة مرّتْ أمام الباب امرأةٌ جميلةُ المُحَيَّا، في الخمسينِ من عمرها، تبدو عليها آثارُ نعمةٍ سابقة، ذهبتْ إلى مطبخ الدّار، و عادتْ، وقفتْ بباب الغرفة باسمةَ الثّغر، مُشرقةَ الوجه، سَلّمَتْ، ودخلت الغرفة.
إنّها أمُّ عابد، قابلةٌ قانونية من معرّة النّعمان، أرملةٌ منذ (25) عاماً، لديها (5) أولاد، أحدُهم ماتَ بعدَ خروجِه من فرع فلسطين، سألتُها عن سببِ وجودِها في الدار، فأجابتْ بابتسامة خفيفة: ” أنا الحمد لله معي سرطان، و الله العظيم حلّلتْ، وصوّرتْ، وعملتْ خزعة، وما خبَّرتْ أهل بيتي إلا وقت الاستئصال، صاروا يبكو، مساكين شو بدهم يتصرّفوا” صمتَتْت قليلا، ثمّ نظرتْ إلىّ وقالت: “الحمدُ لله .. الحمدُ لله .. الحمدُ لله قدرانين نمشي، أمر المسلم كلّه خير، كنت عايشة بسوريا فوق الرّيح (كناية عن ثَرائِها ويُسر حالها) .. و أجت ظروف طلعنا ما عنّا ثياب، صرنا نشتري من البالة، و هيك الله قدّر علي، الله عطاني وأخذ، محتمل يرد يعطينا لسّة أكتر من قبل “.
نظرتُ إليها باستغرابٍ وإعجاب، تتحدّثُ وتتحدّثُ، تُكثرُ من الحمد، ولا تفارقُها البسمةُ، وقبل أنْ أسألَها عن سرّ ذلك رغم المرض والألم والوحدة والغربة نظرتْ إليّ وقالت: “أنفاسنا معدودة .. لا زايدة ولا ناقصة”، عجبت من قوّة إيمانها وتقبّلها لمرضها وتعايشها معه، فهذا المرض الخبيث يحتاج إلى صلابة نفسية وقوّة إيمان، وقدرة على تحمل تبعاتِ العلاج بالكيماوي وآثاره على المريض.
سألتها إن كانت تعاني من شيء فأجابت : ” ما عندي شي عاني منّو، في أربع ملايين بالمحرر، سعري بسعرهن، إلّا أنو عندي ابني باسطنبول، وبدي روح لعندو، وما عندي كملك (بطاقة الحماية المؤقتة للاجئين في تركيا)، صرلي سنة بالريحانية وما قدرت أطلع لعند ابني، ظلّيت (10) سنين مرابطة، و ما في غارة إلا حضرْناها “.
سألتها ماذا تتمنى فأجابت : ” أتمنى نروح على تحفيظ القرآن و اللغة، لازم نتعلّم لغة، ما بدنا شي، بس يخلّونا نطلع عالتحفيظ، عنا فراغ كبير، أتمنى يسمحو لكلّ اللي بالدار نكمّل تعليمنا بالقرآن “.
هذه بعضُ الحالاتِ التي انتهى بها المطافُ في دار الجرحى في مدينة الريحانية التّركيّة، تلك الدّارُ ذاتُ البناء القديم المكوّن من ثلاثِ غرف، استأجرها مواطن سوري على حسابه الخاص، و وهبها للجرحى و المرضى القادمين من سوريا للعلاج، تمّ تحويل الغرف الثلاث إلى تسعِ غُرَفٍ صغيرة جدا عن طريق فصلها عن بعضها بألواح خشبية، تضمّ أطفالا ونساء من مختلف الأعمار، يتواجد في الغرفة الواحدة ثلاثةُ مَرضى أحيانا، تفتقر هذه الدار إلى كثير من الخدمات، ولا ترقى أن تكون دارا للجرحى ومرضى السّرطان، وهذا أحد أسباب الاكتئاب الذي يعاني منه أغلب قاطنيه.
هذه الدّار التي ضمّتْ داعية ونجدية والخالة أم عابد وغيرهنّ من مرضى السّرطان الذين يعيشون ما بين مطرقة الألم وسندان الغربة.
بقلم : ظلال عبدالله عبّود