بهتّ منذ اللحظة الأولى وأنا أسمع أولى الكلمات (المقذوفة) من مقمع يقذف الحديد والنار إلى أذني اسمه (فم امرأة مقهورة)، ماذا أسمع؟ وما يجب أن أقوم بها؟ هل كل هذا الجحيم هو هنا في إدلبيّتي تزداد خضارا؟!
إنها إحتى نساء الغوطة الشرقية التي هجرها النظام قسرا مع أهالي منطقتها بأكملها إلى مدينة إدلب؟، إذ إن النظام يتبع هذه الأيام سياسة إفراغ المناطق الثورية من أهلها من خلال حصار المنطقة ثم التضييق على الأهالي بالقصف الممنهج لدرجة الرض المحروقة ما يفرض عليهم القبول في مفاوضات شكلية تنتهي كما في حالتنا هذه بالخروج من المنطقة المحاصرة إلى مدينة إدلب المدينة التي أصبحت تغص بالمهجرين من حمص وحماة وحلب وأخيرا دمشق..
صوت مبحوح من كثرة الحزن والبكاء وتفاعلات النفس التي تمور على مدى ثلاثة أيام متواصلة، كلها تتمحور حول الندم والمعاناة وألفاظ مستقبح التفكير بها أو التلفظ بها أو سماعها كرها أو طوعا، لكني سمعتها على مرأى ومسمع عشرات الشباب والنساء والأطفال من حولي، وأنا ممتقع الوجه لا أستطيع حتى مداراة خجلي فالجميع متحلّق من حولي ويسمع ما توجّهه تلك المرأة-الآلة الغاضبة المندهشة فقد سجلت ما خزنته ذاكرتي من كلمات على النحو الآتي:
( وماذا سأقول لكم.. ماذا سأقول لكم؟! وماذا ترى عندنا؟ هل هذا الوضع الذي يناسبكم؟ هل هذا ما وعدتمونا به، أكثر من ألف إنسان مكوّمون بعضهم فوق بعض هل هم في محشر أو معتقل؟! لا والله حتى المعتقل أنظف وأشرف وأهون؛ كأنه مجمّع عساكر ويوم أو يومين بخلصوا.. بس نحن شو؟ شبر أرض هون مالنا، ما نسترجي نطلع ولا نفوت كل الي عنا هون حصيرة وفلينة رز وبرغل..
شو بدي قلك لقلك.. جينا على أساس عاصمة الحرية والخلاص والأمور أحسن في المناطق المحررة ولا تخافوا بعد اليوم أنتوا رح تطلعوا على إدلب.. إي إدلب البارحة كانت نص شبيحى ونص ما بعرف شو.. تحررت غصب عنها، وجينا، شوف هون نحن بتقولي مكب زبالة بس جيبوا هدول العالم وكبوهن على إدلب.
شو هدول العالم مالهم أرض وبيت وكانوا عايشين؟! لا والله العيشة كانت هونيك أشرف، عايشين ببيتنا وكرامتنا يلعن أبو لقمة الأكل الي عمناكلها هون كلها ذل بذل؛ الواحد بدو يشحن جوال ما بيحسن، بدو يغسل.. بيغسل على إيدو؛ لا كهربا ولا أمبير ولا مي
كلها مجمعات كأنها معتقل، شو المناطق المحررة هي محررة ولا فيها مراكز إيواء ومعتقلات فقط؟!
عندي 3 أولاد استشهدوا وما زعلت عليهم استشهدوا لأنهم عبدافعوا عن بلدهم وأرضهم وبيتهم وعرضهم.. هون شو لا بيت ولا سكن ولا أرض، غرفة مقسومة نصين ما بتعرف مين جارك بينك وبينه برداية.. كل الي في حياتك اختصرتوا بصحن برغل، نحنا ما طلعنا ثورة منشان صحن برغل أو لقمة نكبها ببطننا نحن شبعانين قبل الثورة وبعدها)..
تشعر المرأة أنها استفاضت طويلا في كلامها فتعود إلى مربط الفرس، قائلة:
( مارح تاخد ولا صورة ولا تشحد لا أنت ولا غيرك على كتافنا وباسمنا، خلولنا شوية كرامة اسع بدكم تشهرونا على النت وما نت!
يا رب نحن شو عاملين قصف ودمار وسجون، وكمان هون بعد ما قلنا خلصنا لاقينا قدامنا ألف طريقة للموت.. عمنموت كل يوم ألف مرة، ألف طعم للموت عمنعيشه
لشو التقرير لشو رح بتصور؟ بربك ليش؟ ولّا بدك تعمل تقرير مو لأن بدك تقبض عليه.. بس أنت لا بهمك لا مرا ولاختيار ولا عيشة زفت شايفها.. بس أنت بدك تصور وتقبض وتروح..
كل الي صورونا هون وهونيك ما طلع معاهم شي.. شو العالم كله ما بيعرف شو عبصير، العالم كله بيعرف وشايف، بس العالم كله ما عبيعمل شي..
شو في بالك ما بعرف، بس (لأيمت ما بعرف؟).. هاد بس الي ما بعرفه.
لا أنت ولا الي قبلك عملولنا شي).
بس خلولنا شوية كرامة جوا هاد السجن الكبير شو عملتوا أنتو هون؟
بس غيرتوا اسم السجن وصار اسمه دار إيواء.. شو نحن كنا مشردين لتآوونا، لا.. نحن كنا شوكة بحلقهم بس كام واحد من قليلين الآصل والضمير طالعونا لهون على الذل والسّخّام..
يا ليت ما طلعنا ولا شبر من بيوتنا وتكون مهدومة فوق راسنا.. شو كان صار؟
ماش عيشة بكرامة وموت بكرامة.. بس هلق تشرّد وذل وفضايح على الإعلام ما في شي أكتر من هيك.. الله لا يسامح الي كان السبب).
نظرت حولي.. الجميع مطرق أرضا، الجميع صمته يقول هذا وأكثر، ولكن شابا واحدا كان يبتسم وهو يحملق بوجهي وابتسامة عريضة على وجهه..
انسحبت من المكان بلطف همهمات وحسيس كلمات أفهمها رغم أني لم أسمعها بوضوح نزلت من الطابق الثاني ثم الأول ثم خرجت من المبنى إلى ساحته.. عشرات الشباب الذين كانوا مسلحين ومدافعين عن بلدهم أصبحوا الآن يتسكعون في ساحة مدرسة بعيون مغلقة لا تريد النظر إلى الغد.. هي فقط تنظر إلي على أني مخلوق غير مرغوب به ولا بد أن يخرج من محيطهم..
وهذا ما كان فعلا.
المركز الصحفي السوري – عمار العبد