مدينة سورية في الأردن
أنشأت الحكومة الأردنية مخيم الزعتري في العام 2012، بالتنسيق مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لإيواء الأعداد المتزايدة من السوريين الفارين من النزاع في وطنهم. معظم سكان المخيم قَدِمُوا من محافظة درعا في جنوب سورية. يقع المخيم على بعد 12 كيلومتراً فقط من الحدود السورية على أرض مساحتها 5.3 كيلومتراً مربعا. وبحسب المفوضية، حوالى 60 في المئة من المقيمين فيه هم من الشباب.
جميع المباني في المخيم مؤقتة، فالوحدات الجاهزة للسكن التي تتكوّن من غرفة واحدة، قدّمتها الجهات المانحة إلى اللاجئين، بدلاً من الخيام، وأُنشِئت على شكل كرفانات متنقلة. تستخدم الأسر اللاجئة سقفاً من الحديد المموج للربط بين وحدتين، مع وجود مدخل خاص بكل منها، وفناء داخلي للمنزل.
يبرز قطاع عمل جديد في الزعتري: قطر الكرفانات، إذ يقوم السكان بنقل كرفاناتهم من مكان إلى آخر بين أحياء المخيم ووضعها في الموقع الذي يختارونه، مايؤدي غالباً إلى تغيير شبكات التخطيط التي وُضعت للمخيم. كما يجري الإتّجار بالكرفانات مع اللاجئين الذين لم يعودوا في حاجة إليها.
يتطلّب الدخول إلى المخيم والخروج منه وكذلك الذهاب إلى أماكن مختلفة في داخله، المرور عبر بوابات وأسلاك شائكة وأبراج مراقبة ونقاط تفتيش. وترسم هذه الأخيرة حدود المخيم وتعزل سكانه عن جوارهم المباشر.
جميع المؤسسات الرئيسة في الزعتري، سواء كانت مدارس أو مستشفيات أو عيادات أو سوبرماركات، محاطة بأسلاك شائكة، ما يحوّل المخيم إلى حُجْر لا نهاية له من الأماكن المغلقة المتاخمة.
الحياة مُستمرة وسط الأسلاك الشائكة.
يعجّ مخيم الزعتري أيضاً بالإعلانات والعلامات التجارية، إذ تتعدّد الجهات المانحة التي تقدّم المساعدة إلى قاطنيه وتتراوح بين منظمات دولية، من ضمنها الوكالات التابعة للأمم المتحدة، ودول مثل المملكة العربية السعودية وقطر والكويت وعُمان والبحرين والإمارات العربية المتحدة. التجوّل في أرجاء مخيم الزعتري هو أشبه بمشاهدة حملةٍ إعلانية كُبرى هدفها الترويج لهذه المنظمات والدول، ولاسيما أن أحياء سكنية بأسرها باتت ممهورة بأسماء وشعارات وأعلام الجهات المانحة.
تبدو الشعارات واضحة للعيان أيضاً على أبنية المؤسسات المولَجة توفير الخدمات، مثل المدارس والعيادات الصحية ومصانع إعادة التدوير.
حتى حاويات القمامة لم تبقَ في منأى عن الشعارات والإعلانات.
مخيم الزعتري ينبض بالحياة. أُطلق على أحد أسواقه الرئيسية اسم “شام-إليزيه” (وهو تعبير يتضمن الكلمة العربية “شام”، وتعني دمشق، وشارع الشانزيليزيه في باريس)، وهو شارع صاخب يعجّ بالناس وبالمحلات التي تتوفّر فيها شتى أنواع السلع والخدمات، من دكاكين ومحلات حدادة وخياطة وأخرى تُعنى بصيانة وتصليح الأجهزة الإلكترونية، وصولاً إلى متاجر تبيع غسّالات مستعملة وفساتين أعراس وعطور وغيرها من السلع والمنتجات التي يحتاجها الناس في حياتهم اليومية.
تستقطب بعض المحال التجارية في شارع “شام-إليزيه” أردنيين وسوريين من مدينة المفرق المجاورة التي يقطن فيها حوالى 79 ألف لاجئ سوري آخر، سعياً إلى شراء سلع أرخص ثمناً من قطاع الاقتصاد غير الرسمي المنتشر في المخيم، من خلال شبكات الأصدقاء والأقارب.
يضم مخيم الزعتري حوالى 2500 متجر يديرها لاجئون. ويسعى بعض أطفال المخيم إلى كسب لقمة العيش من خلال نقل المشتريات إلى المنازل عبر كراسٍ متحركة أو عربات الأطفال.
سُمح بدخول النشاطات التجارية الأردنية أيضاً إلى المخيم، متمثّلةً بمتجرَي سوبرماركت رئيسين للاجئين. يبدو في هذه الصورة أحد فروع سوبرماركت سايفواي التابعة للسلسلة متاجر ال “تي أس سي” الكويتية التي تتيح للاجئين إمكانية الدفع إما نقداً أم بالقسائم التي توزّعها الوكالات التابعة للأمم المتحدة.
لايغرّد مخيم الزعتري خارج سرب الاقتصاد العالمي. فكما نلاحظ في الصورة، تبيع سوبرماركت سايفواي في المخيم تفّاحاً مستورداً من إيطاليا، وموزاً من لبنان، وبرتقالاً من إسبانيا.
تنطوي الحياة الاجتماعية داخل المخيم على جوانب ثلاثة مختلفة عن بعضها البعض: فثمة السوق، والمقهى، والمطابخ الجماعية. وفيما يبقى السوق والمقهى حكراً على الرجال، تتجمّع النساء في المطابخ حيث يتسنّى لهن إقامة علاقات اجتماعية.
وُضعت مساجد جاهزة مؤقتة في كل حي سكني، ويتجمّع فيها الرجال خصوصاً لأداء صلاة الجمعة.
يحوي المخيم مركز شرطة قوامه عناصر شرطة أردنيون، لفض النزاعات القانونية والتصدّي للانتهاكات على أنواعها. ويعمل عناصر الشرطة في مختلف الأحياء مع “قادة الشوارع”، الذين نصّب معظمهم أنفسهم أو عيّنتهم وكالات دولية أو محلية في هذا الموقع. وفي حالات نادرة جرى اختيارهم مباشرةً من داخل مجتمعهم المحلّي للاضطلاع بهذه المسؤولية. إضافةً إلى ذلك، شُكّلت محاكم محلية تديرها المنظمة غير الحكومية الأردنية “النهضة العربية للديمقراطية والتنمية” لفض النزاعات القانونية وتسجيل المواليد والزيجات.
التنقّل داخل المخيم عسيرٌ، ولاسيما للنساء. سُخِّرت بعض الفانات الصغيرة للنقل العام، وهي تقلّ الركاب من محطات معيّنة، مثل “محطة الزهور” الظاهرة في الصورة.
تفضّل بعض النساء التنقّل بالدراجة لأنهن لايشعرن بالأمان على متن الفانات. وقد انطلقت حركة ترمي إلى تشجيع النساء على قيادة الدراجة بمفردهن، وهذه المبادرة أشبه بثورةٍ تتّقد جذوتها في خضم هذا المجتمع المحافظ.
من بين وسائل النقل الأخرى في المخيم العربات التي تجرّها الحمير والتي تُستخدم لنقل البضائع من السوق إلى الأحياء السكنية حيث تُباع.
يعمل حوالى 1500 لاجئ في المخيم مع المنظمات غير الحكومية المحلية أو الدولية، معظمهم من النساء. أما الرجال، فيبحثون عن العمل الموسمي في الزراعة خارج المخيم أو في المشاريع التجارية الصغيرة التي أسّسوها. ويتعيّن على اللاجئين الراغبين في مغادرة المخيم للعمل أو لغايةٍ أخرى، أن يقدّموا طلباً للحصول على تصريح خاص يُسمّى “إجازة”، ثم يعودون أدراجهم إلى المخيم بعد يوم من العمل في الحقول المجاورة للمخيم.
المرأة هي ربة الأسرة في خُمس الأسر التي تقطن مخيم الزعتري. تشكّل هؤلاء النساء اللواتي يتحدّرن من مناطق ريفية، العمود الفقري للبنى الاجتماعية داخل المخيم. وقد غدا عددٌ كبيرٌ منهن المعيل الأساسي للأسرة، وبتن يزاولن العمل في إطار برامج “المال مقابل العمل” التي أطلقتها المنظمات غير الحكومية العاملة في المخيم، مايعرّضهنّ إلى مروحة من التحديات التي قلّما واجهنها في بلداتهن. أما الرجال في المقابل، فيعملون في غالب الأمر في المشاريع التجارية المحلية داخل المخيم
تزرع معظم الأسر الخضار للاستهلاك الشخصي في الباحة الأمامية أو الخلفية لمساكنها، مايسهم في إضفاء بعض الخُضرة والنضارة على بيئة قاحلة للغاية.
يتوزّع سكان مخيم الزعتري على أجيال ثلاثة، بعضهم يكبرون وبعضهم الآخر يطعنون في السن، وقد عانوا جميعهم من الصدمات النفسية. ومع أنهم يتوقون للعودة إلى سورية، إلا أن عودتهم مستحيلة في ظل غياب ضمانات راسخة وعدم تغيُّر النظام، وهم يخشون من أن يقبعوا في المنفى لعقود وعقود، وأن تتضاءل آفاق عودتهم تدريجياً فتصبح حلماً بعيد المنال.
لأن 80 ألف نسمة، معظمهم من جنوب سورية، يقطنون مخيم الزعتري للاجئين السوريين في شمال الأردن، يُشار اليه غالباً كخامس أكبر مدينة في هذا البلد. لكن المخيّم، وإن كان يكتسب تدريجياً خصائص ديمومة مبنية على تلطُّف الغرباء، يبقى أشبه بسجن عملاق أو مساحة خارج نطاق الدولة.
زرتُ المخيم في 23 نيسان/أبريل الماضي، واستوقفتني قدرة لافتة للسكان سيما النساء منهم على الصمود. فعلى الرغم من المشهد القاحل والطبيعة المؤقتة للمساكن، يحاول سكان المخيم إعادة بناء حياتهم ببطء. عمل النساء لا يقتصر على الاهتمام بالمسكن ورعاية الأطفال وأحياناً الأقارب، بل بعضهن انخرط في أعمال مختلفة. تلحظ في المخيم شعوراً قوياً بالانتماء والتضامن الاجتماعي.
في هذه المدينة الأفقية المُتمددة التي يجري حالياً ربطها بالبنى التحتية للدولة، برزت أيضاً أعمال تجارية صغيرة، سمح ازدهارها ببروز بنية طبقية داخل المخيم. كما وُضع نظام واضح المعالم، وإن كان غير رسمي، يتكوّن من “قادة شوارع” مُعيّنين ذاتياً يتولون مهمة تنظيم العلاقات بين مسؤولي المخيم وبين أجهزة الأمن. ويَعتبر البعض أن هذا النظام سهّل بروز قبضايات الشوارع المحليين الذين يُحكمون سيطرتهم على المداخل إلى الخدمات، ويطالبون اللاجئين المعوزين بدفع المال لقاء حمايتهم.
بالنسبة إلى اللاجئين، لم يعد لديهم حياة خارج مخيم الزعتري. تروي جميلة، أحد سكان المخيم، التي فرّت إلى الأردن عام 2012، أن ابنتها قُتلت وجُرِحَ أحفادها خلال المعارك في درعا، “أرض الانتفاضة” كما قالت لي. أضافت: “كان علينا الهروب إلى مكان آمن. لا يمكننا العودة من دون توفّر الأمان مع أطفال لا يستطيعون إعالة أنفسهم. تُقت للعودة إلى منزلي، حتى أنني في أحد الأيام عزمت على العودة إلى درعا سيراً على الأقدام، لكن حارس الأمن عند بوابة المخيم استوقفني ودعاني إلى احتساء القهوة والتحدّث عن مشاكلي. عند انتهاء الحديث، شعرت بالراحة بعض الشيء وعدت أدراجي إلى داخل المخيم. بغض النظر عما سيحصل في المستقبل، فقد بنينا لأنفسنا حياةً جديدة هنا”.
لم يكن شعور عدم اليقين يخالج جميلة وحدها. فقد أعربت نساء كثيرات عن رغبة مماثلة في العودة، لكنهن قلن إن منازلهن دُمّرت. رغم ذلك، لا يرغبن في الهجرة إلى أوروبا، لاختلاف الثقافات، إذ يخشين فقدان سلطتهن على أبنائهن عند بلوغهم الثامنة عشرة، وكذلك من “ضياع بناتهنّ”. يبدو هذا الجهد المبذول للتشبث بنوع من البنية الهرمية للأسرة والتقاليد الاجتماعية مدعاة للاستغراب بين أناس واجهوا انهياراً اجتماعياً كارثياً. مع ذلك، سلّط هذا الواقع الضوء على أن الزعتري هو أكثر من مجرد مخيم للاجئين. فقد بات المكان الذي يحاول فيه السوريون التمسّك بحياة تحطمت فجأةً.
كلنا شركاء