القدس العربي
في عملية استخباراتية عسكرية كبيرة اخترقت الحدود السورية بعمق 35 كيلومترا واستخدمت مئات الدبابات والآليات العسكرية والطائرات وجنود الجيش والكوماندوز قامت تركيا بنقل ضريح سليمان شاه، جدّ مؤسس الدولة العثمانية عثمان بن أرطغرول، من موقعه قرب مدينة منبج في محافظة ريف حلب شمالي سوريا، إلى موقع جديد في الأراضي السورية في منطقة “أشمة” غرب مدينة عين العرب (كوباني) والمتاخمة للحدود التركية، ورفعت العلم التركي عليه.
الحكومة السورية، وبلسان وزارة خارجيتها، قالت إن أنقرة أبلغت قنصليتها في إسطنبول بالعملية لكنها “لم تنتظر موافقة الجانب السوري على ذلك كما جرت العادة”، واصفة العملية بالعدوان السافر ومحمّلة تركيا “المسؤولية المترتبة على تداعيات” الأمر.
وبقولها “كما جرت العادة” تشير دمشق إلى أن نقل الضريح المذكور قد تمّ سابقاً عام 1975 من محيط قلعة جعبر في محافظة الرقة السورية قبل أن تغمره مياه بحيرة اصطناعية أقامتها الحكومة السورية بعد إنشائها سد الفرات عام 1973، ويعدّ الضريح، بحسب اتفاقية قديمة يعترف بها النظام السوري، أرضاً تخضع لسيادة الدولة التركية.
تثير العملية التركيّة تساؤلات كبيرة، فالمعروف أن جنود حراسة الضريح السابق الـ38 كانوا محاصرين لثمانية شهور من تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي يفرض نفوذه على محافظة الرقّة السورية، فما الذي تغيّر عملياً وجعل هذا القرار السياسي ـ العسكري ممكناً، في هذا الوقت بالذات، وما علاقة ذلك بالتطوّرات الممكنة على الوضع السوري، وما هي معطيات اختيار المكان الجديد… إلى آخر هذه الأسئلة؟
أطراف محسوبة على الحكومة التركيّة أشارت إلى اعتبارات سياسية داخلية وراء العملية، فبعض الأحزاب المعارضة التركيّة استخدمت موضوع الضريح للترويج لضعف الحكومة الحاليّة وعجزها عن تبديل جنودها المكلّفين بحماية الضريح، واندفعت الأوساط نفسها، بعد العملية إلى انتقادها، فاعتبرها حزب الشعب الجمهوري “خسارة لأراضي الجمهورية التركية من دون قتال”. لكنّ هذا قد يعطي مبرّراً سياسياً داخلياً للعملية، ولكنه لا يفسّر سبب تأجيلها ثمانية شهور، ولا سبب حصولها الآن.
نقل الضريح، ودخول قوات تركية بهذا الحجم الكبير الى سوريا، ما كان ليحصل من دون غطاء سياسي وعسكري غربي، وهو ما يمكن تفسيره بتقاطعه مع حدثين مهمّين: الأول هو انحسار هجوم “الدولة الإسلامية” على عين العرب والقرى الكردية المحيطة بها، والثاني هو الاتفاق التركي – الأمريكي على تدريب قوات من المعارضة السورية والبيشمركة.
يرتّب الحدثان خريطة جديدة للوضع السوري، يزداد فيه ثقل الأجندة التركيّة ضمن المعارضتين السورية والكردية المسلّحة، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى نزاع متزايد مع “الدولة الإسلامية”، من جهة، ومع قوّات النظام السوري، من جهة أخرى.
نقل الضريح، ضمن هذه الخلفيّة الواسعة، هو لسحب ورقة الابتزاز هذه من المعارضة التركيّة، ومن انتقام “الدولة الإسلامية” أيضاً، ولكنه، وهو الأهم، عرض قوّة تركيّ كبير يفتتح مرحلة جديدة من النزاع السوري.
في وقت تساقطت فيه حدود الدول في منطقتنا وخارجها (تذكّروا أوكرانيا وجورجيا والشيشان)، وتعالت من جديد أصوات الإمبراطوريات القديمة، قدّم أردوغان، بهذه النقلة العجيبة إشارة رمزية كبرى معيداً التذكير بتاريخ العثمانيين الذين حكموا امبراطورية عالمية كبرى، أو على الأقلّ، أعاد دور تركيّا المقيّد إلى الضوء مجدداً.