إلى الآن أحاول دفن ذكريات هذا الحدث في مخيلتي.. إلا أنها أقوى من فكرة النسيان، ترجف يداي يختنق قلبي فلا أستطيع متابعة الكلام وكأنّ صخرة ما بين لساني وحنجرتي، لا أدري كيف تحوّل كلّ شيء في برهة من الزمن إلى كانَ..
استيقظت ذلك اليوم صباحا وأعددت القهوة لأبي أحمد، جلست معه على الشرفة أحتسي فنجان القهوة وإذا بأبي أحمد يضحك ويقول: (إيه والله وعلا الشيب راسك يا أم أحمد).
فما وجدت نفسي إلا وأقول له: (شوفوا مين عم يحكي ما دامك هيك، طب من إيدك ولتحت ع السوق تجيب ماسورة صبغة قوام وبتطلع).
أخذت من يده فنجان القهوة وهو يتذمر ويقول: (لك شو صرلك؟! شو صرلك؟!.. الله يعيني على هبالك).
وأنا أدفعه باتجاه الباب (يالله لتجي بعملّك فنجان قهوة ع السريع).
وأنا أفتح الباب وإذ بأصوات أحفادي يصعدون درج البناية ((نانا!، جدو!))، جاؤوني زائرين كعادتهم في نهاية الأسبوع، استقبلتهم بعناق حميم وجلست ألاعبهم وأمازحهم، وما هي إلا لحظات وإذا بصفارة الإنذار تدوي في المدينة قلت في نفسي : ( اللهم سلم، اللهم سلم) وبعد بضع لحظات أخرى يهدر صوت الطيران الحربي يدخل أجواء المنطقة، يزداد هلع الأطفال يمسكون بي خائفين حضنتهم وأنا أحاول تخفيف نظرة الخوف في أعينهم (لا تخافوا نانا هلق بتروح متل ما أجت ما رح تضرب عنا).. ولم أعلم أنه آخر عناق يجمعنا!
في غمضة عين تحوّل كل شيء إلى ركام فتحت عيني وإذا بي ملقاة على الأرض وكل جزء من جسدي محطم لا أقوى على حراكه، المكان مظلم يحاصرني الركام من جميع الجهات، يفصلني عن هديم يطبق على صدري نصف متر على الأقل، ولا وجود لأي شيء سوى الظلام والإحساس بالركام من حولي، أنعمت النظر بل التحسس من حولي وإذا بجسد حفيدي بادِ لي من بين الركام لم أكن أعلم لمن، ناديت بصوتي المتقطع المتعب الضعيف: (يا خالد.. يا أحمد.. رد عليي يا نانا) كررت المناداة ولكن دون جدوى، حاولت تحريك يدي ومررتها بصعوبة اتجاهه؛ لأمسك بيده فأعلم أنه فارق الحياة حقا..
غص صدري وانفجرتُ بالبكاء قائلة: (ياااا رب)، نسيت أني تحت الركام ونسيت آلامي وبكيت وصرخت.. لكن ما من أحد يسمعني! وكأني في معزل عن العالم.. أدركت حينها أن الطيران الحربي قد قصف البناية وأن كل من كان فيها تحت الركام، لا أدري وقتها أأبكي على حفيدي أم أبكي على نفسي، أصمت قليلا لأعود بصوت أعلى للبكاء وأصرخ وأقول: (لمين تركتوني يا روح ستك.. لك دخيلك يا الله) وتتعالى شهقات البكاء ثم أهمد لأذكر وما مصيري أنا فقد لا يتم انتشالي من هذا الركام إنه يعلو أمتارا.. وأتذكر كيف كنت أمازح روح نانا ستو وجدو وألاعبهم فأعود لأبكي من جديد، أشعر بأن جسدي مشلول تماما؛ لا يمكنني الحراك، رائحة الموت تصاعدت وتصاعدت، الدماء تسيل من تحت جسدي ومضت ساعات وساعات وجسدي مازال في وضعيته نفسها تحت الركام.. لم يبق لدي صوت لأصرخ به.. لم أعد أكترث بالحياة حقا، فأي حياة تنتظرني بعد فراق أحفادي؟! أي حياة تلك التي تنتظرني بعد فقدي أحفادي.
أصمتُ؛ فأصرخ؛ ثم أبكي من جديد… أصوات الآليات الثقيلة التي تحاول إزالة الركام علهم ينتشلون الأشلاء هذا هو الشيء الوحيد الذي كنت أسمعه ثم اختفى فأعلم أن الليل قد خيم وبأني سأمضي ليلي هنا ما بين الركام ورائحة الدم وجسد حفيدي الشهيد، ولم أكن أدرك أيضا أن حال اليوم الثاني كحال اليوم الأول إلا أن ما زاد عليه انتفاخ جسد حفيدي بقربي وارتفاع رائحة كريهة قتلت أنفاسي.. ياللهول ذلك اليوم، أذكره وأنا أشعر إلى الآن بأن الرائحة معشعشة في أنفي.. وما زاد الطين بلة ارتفاع حرارة الجو.
تخيّل معي أنك تعيش مراحل تفسّخ جثة أمام عينيك وكأنك تشهد مراحل مرورك في القبر.. يا إلهي بدأ عقلي يستجير من هول الموقف، لم أعد قادرة على احتمال المشهد، نسبة الهواء تحت الركام قليلة والرائحة النتنة تتصاعد أكثر فأكثر مع اشتداد الحر، أنفاسي تضيق صوت متعب من الصراخ.. جسد لا يقوى على الحركة متلطخ بالدماء ورائحة طغت في المكان.. يا إلهي ذلك الموت بعينه.
صرخت من جديد: (دخيلك يا الله موتني وريحني) لم أعد أشعر بوجود حفيدي بقربي، كل ما هنالك أن جسدا أمامي ينتفخ ليتفسخ وعليّ الخروج بأي طريقة وعدت للصراخ من جديد، وهنالك أصوات تتعالى من بعيد للآليات الثقيلة لانتشال الركام (يا ناس.. يا عالم أنا هون.. أنا هون)، ضع مكانك نفسي وستتمنى لو معك رصاصة تقتل بها جسدك لترتاح، أغمضت عيني وأنا أتمنى الموت آلاف وآلاف المرات، الدموع تنهمر من تحت جفوني المغلقة.. لم أعد قادرة على احتمال المظهر.. وأطبق الليل على جسدي من جديد وها أنا تحت الركام لليوم الثاني، أي عذاب دنيوي ألقاه لا أدري وكأني في كابوس شنيع أريد الاستيقاظ منه بأي وسيلة…
أي حالة جنونية أمر بها، جسد حفيدي منتفخ ورائحة كريهة تخرج بقوة منه، يا إلهي لم أكن أتصور يوما أني سأقف من حفيدي موقفَ قرفٍ واشمئزازٍ.. وجاء اليوم الثالث وأنا أنازع الموت حقا لم يعد بمقدوري التحمل، بدأت أشعر بالاختناق فعلا وعمليات الحفر والبحث مازالت مستمرة.. ستصل ولكن بعد أن أفارق الحياة، على ما أظن.
ولوهلة خطر في ذهني أبو أحمد، أين هو يا ترى، ماذا حل به؟!، وما يضحكك حقا حينها رغم أني في حالة يرثى لها خطر في ذهني (عجب جبلي الصبغة يا ترى ولا لا… عبيتحسّر عليّ وبيبكي لا لا.. ميت.. طيب)، وعدت للتنهد من جديد والشعور برغبة عارمة في البكاء وما زاد جنوني حقا أن الجسد بدأ يتفسخ فعليا، تمنيت حينها لو كنت مدفونة تحت التراب ولم أعش تلك اللحظات وبدأت أتخيل مراحل تفسخ تلك الجثة وكيف سيأكل الدود جسد حفيدي وأشعر بأن عقلا كان في رأسي وطار، شعرت وكأن شيئا يسري في جسدي وكأن الدود يسري في أطراف أصابع قدمي إلا أن يأكل جسدي كله، أصبحت فاقدة للوعي وهذه أكبر نعمة من الله في ذلك الوقت وفي ذلك الموقف، فلو أني استمريت في التفكير لما كنت إلى الآن على قيد الحياة.
فتحت عينيّ فأجد نفسي في المستشفى، بجانبي أبا أحمد جالس على الكرسي واضعا يده على خده، مغمض العينين منتظرا صحوتي، وبصوتي المتعب (أبا أحمد)، فانتهز قائلا: الحمد لله على السلامة يا أم أحمد، لك هيك.. هيك والله فكرتك متّي.. قلت ضيعان هالصبغة يلي اشتريتها) ضحك ممازحا وضحكت غصبا عني بالرغم من المعاناة التي شهدتها، كنت أعلم حينها بأنه لا يريد تذكيري بما حدث لي؛ كي لا أصدم مجددا وبعدها علمت أنهم وجدوني في اليوم الرابع مغميا عليّ، فاقدة الوعي وتم نقلي إلى المستشفى، وأن أحفادي الثلاثة قد استشهدوا مع جملة من استشهد من سكان البناية.. إلى الآن أحاول رسم صورة أخرى لحفيدي خالد في مخيلتي وعدم تذكر ما مررت به، إلّا أنه آخر مشهد طبع في ذاكرتي حتى الممات، ولا أظنه موعدا بعيدا في ظل ما نشهده في سوريا.
المركز الصحفي السوري – منال حلاق