ماذا لو قُسّمت سورية؟





خلال السنوات الثلاث الأخيرة، توالى مسؤولون استخباراتيون غربيون على التصريح أن سورية قُسّمت واقعياً، وبأن الشرق الأوسط لن يعود بموجب الحدود السابقة، بخاصة بعد سيطرة “داعش” على مساحة واسعة متصلة من العراق وسورية. آخرهم قبل أيام كان مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه.
بيان فيينا، في أول بنوده، أتى كأنما ليدحض في المقام الأول فكرة التقسيم، إذ نصّ على وحدة سورية واستقلالها وعلمانيتها، كأن المجتمعين وجدوا ضرورة ملحة لإبراز اتفاقهم على هذا المبدأ تحديداً، وهو أيضاً ما اعتبره البعض انتصاراً على مخطط يهدف إلى الإبقاء على النظام في دويلة محمية إيرانياً، ولا يغيب العامل التركي بناء على جهر الحكومة بعدم السماح بتشكل كيان كردي جديد على حدودها.
إذا استثنينا الأكراد، فالسوريون بغالبيتهم يجهرون برفضهم فكرة التقسيم، أما تحت الرفض فهم ينقسمون بقوة حول البلد الذي يريد كل طرف الهيمنة عليه. النظام يريد العودة إلى ما قبل الثورة، والمعارضة لم تقدّم تصوراً “ثورياً” لما بعد النظام، بمعنى أن المستقبل المنشود من قبلها يتعين في الوضع السابق بعد إزالة آثار حكم البعث، من دون النظر في ما إذا طاولت تلك الآثار الإرادة الحقيقية للعيش المشترك، أقله على النحو المركزي السابق.
بلا تهيّب أو حرج، يحتاج السوريون أن يطرحوا على أنفسهم سؤال: ماذا لو قُسّمت سورية؟ لا ينفي هذا السؤال أن المؤثّرين في الملف السوري استبعدوا فكرة التقسيم، ولا ينفيه مجيء الاستبعاد على قاعدة أن التقسيم قد يستتبع إعادة رسم خريطة المنطقة، ما لا تتوافر إرادة كافية له الآن. بل لنفترض تغير الظروف الإقليمية والدولية، بحيث تصبح مواتية للتقسيم، ما الذي ستكون عليه إرادة أصحاب الشأن نفسه؟
يلزم أيضاً أن ننحي الفكرة القائلة بوجود ثمن باهظ للتقسيم، فمجريات الحروب الداخلية في سورية والعراق ولبنان لا تدلل على أن ثمن العيش المشترك من الدماء أقل من الاحتمال الذي لم يُختبر. وإذا أخذنا بالحسبان وضعية “شبه الاستقلال” الذي يعيشه إقليم كردستان العراق، فالتجربة حتى الآن أقل كلفة من وضعية الإقليم في ظل البعث، وعلى عكس “وطأة” العيش المشترك في عموم العراق، والذي تغذّيه دماء التحارب.
العبرة ليست في رفض التقسيم، هي في نوع البلد الواحد الذي يريده رافضو التقسيم. في سورية، لا يخفي مؤيدو الأسد رغبتهم في محو المدن والبلدات الثائرة عن وجه الأرض، ولا حتى شماتتهم بأي حادث مروّع يتعرض له النازحون خارجاً. فهم يريدون الأرض بلا سكان، والمستحسن أن يُقتل الجميع لئلا يبقى من يطالب بحق العودة. بلد المؤيد هو بلد هيمنته المطلقة، بلد تنبغي هندسته اجتماعياً بحيث تكون السيطرة نهائية وأبدية، ومن نافل القول أنه غير مقسم وغير موحد لعدم وجود آخر يُتحد معه.
في المقلب المقابل، لا نعدم الأصوات التي تجزم بعدم إمكان العيش مستقبلاً مع “الوحش”، ومع رفض الأصوات نفسها فكرة التقسيم يكون المضمر هو إما ترحيل “الوحش” خارجاً، أو “ترويضه” بما تحمل الكلمة الأخيرة من نوايا الإذلال والانتقام. الحديث عن عدالة انتقالية أصبح طي النسيان بعد مئات آلاف القتلى، وأيضاً بعد بروز الرغبة الدولية في الإبقاء على النظام. إذاً، في الأمد المنظور لن يكون ثمة مناخ خارجي وداخلي يبشّر بحد أدنى من العدالة، ما يعني تفاقم رغبات الانتقام وانتشارها أفقياً، بحيث يصعب تجاهلها أو الحد من تبعاتها.
المستغرب أن أحداً من السوريين المتكارهين لم يطرح فكرة الانفصال. حتى الأكراد مَن يطرح منهم الفكرة يقاربها باستخدام تعبير “تقرير المصير”، من دون التجرؤ على التصريح بها مباشرة، ومفهوم أن ذلك ينطوي غالباً على قراءة الظروف الخارجية التي لا تسمح بالانفصال. لسنا فقط أمام ثقافة تعتبر الانفصال وصمة، بل أمام ثقافة تعترف بحدها الأقصى بالعيش المشترك، ولا تمنح أدنى اعتبار لإرادة العيش المشترك.
الثورة أيضاً، في مستهلها، رفعت شعار “الشعب السوري واحد”، ويعلم الجميع ما يختزنه الشعار من أمنيات تكفّل الواقع بإثبات ما يخالفها.
طوال عقود، كانت ثقافة البعث السائدة تروّج لمفهوم المؤامرة الخارجية والاستعمار الذي يعمل على التجزئة وتقسيم المجتمعات. الآن، مع بيان فيينا، نحن أمام خارج يريد سورية موحدة، بخلاف ما هي عليه من انقسام عمودي وأفقي، وكل أنواع الاحتلال على الأرض لا تخفي سعيها إلى السيطرة عليها كاملة، بمعنى أنها لا تعمل على التقسيم. إذا توخينا الطرافة، سنكون إزاء مؤامرة معكوسة: الخارج يريد الوحدة لا التقسيم، ويتآمر للحفاظ على النظام الذي واظب على اتهامه بالتآمر على إسقاطه. ما ليس طرفة، ويمكن عدّه الثابت الوحيد بين مرحلتين، غياب السوريين وتغييبهم عن البت في مستقبلهم تحت يافطة أنهم هم من يقررون مصيرهم!
لنقل إن الديموقراطية الحقة تبدأ بمنح السوريين حق البقاء معاً أو الانفصال، أي أن هذا الحق ليس من شأن القوى الخارجية، حتى إذا كانت قوى خارجية أخرى قد قررت سابقاً الحدود الحالية. ما يوازي هذا الحق، أن يفكر السوريون أنفسهم في عواقب الانفصال وعواقب العيش المشترك، وأن يقرروا بناء على تلك الموازنة خيارهم، وبالطبع ثمة خيارات متدرجة منها الفيديرالية والكونفيدرالية. بيان فيينا يصادر حق أولئك الغائبين والمغيبين، بتقريره بقاء سورية موحدة، وتحت طائلة النظام الذي نادوا بإسقاطه بعدما يئسوا من إمكانية إصلاحه.
ثمة حرب ينبغي إيقافها، هذا شأن له أولوية قصوى. الآثار المديدة للحرب على توجهات السوريين يصعب التكهن بها، بما فيها إرادة العيش المشترك الذي لم يعد معطى بديهياً لدى الكثيرين. بخلاف البند الأول في بيان فيينا، قد يكون ضرورياً ومفيداً أن يطرح السوريون على أنفسهم سؤال التقسيم، بالضبط أن يطرحوه بمعزل عن أوهام السيطرة والهيمنة على مزيد من الأرض والسكان. إرادة العيش المشترك تُبنى على الحق في نقيضها، وأيضاً على موازنة عقلانية بين الاحتمالين، طبعاً من كافة الأطراف والجماعات المعنية.
ماذا لو قُسّمت سورية؟ سؤال عقلاني من المفهوم أن يتطير منه فقط أولئك الذين يخشون أن ترجح الإرادة الحرة احتمال التقسيم.

الحياة

Next Post

النشرة البريدية

اشترك ليصلك بالبريد الالكتروني كل جديد:

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist