فرنسا الحرب قبل هجمات كانون الثاني (يناير) الماضي وإثره. فهي تنشر 10 آلاف جندي في عمليات خارجية وداخلية، وتشارك في حرب مسرحها أصقاع العالم. ويرجح أن تدوم وقتاً طويلاً. وإثر الهجمات الأخيرة، أدرك الفرنسيون أن العدو اجتاز الحدود وأنه صار في ديارهم. ولذا، تبرز الحاجة إلى التكيف مع هذا التغير المستدام في الشؤون الاستراتيجية. ومن يقصدون فرنسا لتنفيذ هجمات يهددون حياة الفرنسيين ومصالحهم. وهؤلاء يمثلون الإرهاب العسكري أو المعسكر، ولو اختلفت تسمياتهم سواء وسموا بـ «القاعدة» أو «جهاديين» عائدين من العراق. واليوم، على خلاف ما كانت الحال في الماضي، لم تعد الحروب تدور بين الدول. ولكن هذا لا ينفي صفة الحرب عما يجري. فجوهر الحرب هو الخروج عن نماذجها أو المألوف من سوابقها.
ويحسب الفرنسيون أن الحرب أفلت. فهم دفنوها قبل 70 عاماً. ولكن حسبانهم هذا باطل. وحري بهم إدراك تعاظم المخاطر. فالنار تحوط أوروبا كلها من أوكرانيا إلى موريتانيا. وانتشار الجنود الفرنسيين في الشوارع يوجه رسالة إلى الفرنسيين: الأمن مشرع على الاحتمالات ويحتاج إلى حماية. ولكن لا يجوز اعتبار العسكريين المنتشرين في الداخل قوى مكملة للشرطة. فكلفة تدريبهم عالية، وتهدر إذا اقتصر دورهم على حراسة برج إيفيل، في وقت يحوزون مهارات وقدرات استثنائية: جمع المعلومات الاستخبارية، والسيطرة على مناطق وحدود، والتدخل. ويقتضي إدراج خبراتهم ومهاراتهم في العقيدة الاستراتيجية الجديدة.
ويصيب الوهن أركان المجتمع. والشعور بالانتماء إلى المجتمع الفرنسي يضعف. وخدمة العلم الإجبارية كانت حلقة من حلقات التنشئة الاجتماعية المكملة للعائلة والمدرسة. وعلى رغم إلغاء الجندية الإلزامية، الجيش الفرنسي ركن من أركان المجتمع. وإذا أصابه الوهن، تقوضت أركان الدولة والمجتمع. ويستبعد الأوروبيون وقوع مواجهة بين دول قارتهم. ولكن الأزمة الاوكرانية دقت ناقوس الخطر وهي تعيد الأوروبيين إلى عالم الواقع. ولكن حجم الجيوش الأوروبية تقلص، ولم تعد هذه مخولة خوض مثل هذه الحروب. وليست غاية فلاديمير بوتين من حيازة آلاف الدبابات الفائقة الحداثة الاستعراض فحسب. فرئيس وزرائه، ديمتري روفغوزين أعلن: «الدبابات الروسية لا تحتاج إلى تأشيرة لدخول أوروبا». ومن أوروبا إلى منطقة الساحل الأفريقي، الحرب قد تجلو على أشكال غير متوقعة، وآخرها هو بروز «داعش». فـتنظيم «الدولة الإسلامية» يجمع بين أفضل عناصر المواجهة التقليدية «المتناظرة» أو المتكافئة وبين أسوأ ما في عناصر المواجهة غير المتكافئة: فمن جهة، حاز وسائل المواجهة التقليدية من دبابات «أبرامز» إثر سلبه القوات العراقية، والتفنن في الرعب، من جهة أخرى.
ونحن مدينون إلى الاتحاد الأوروبي بإرساء السلام منذ 1945. ولكن هذا السلام المستدام حمل الأوروبيين على استبعاد احتمال الحرب، وانزلقوا إلى موضع ضعف. فأوروبا اليوم تقربنا من الحرب، إثر إطاحتها احتمال الحرب والقدرة على احتساب خطرها. ولا شك في أن قدرات القوة العسكرية محدودة ولا يسعها تذليل كل المشكلات، ومنها مشكلة تدفق سيل المهاجرين. وحري بمن يلجأ إلى القوة العسكرية الحذر. فدينامية الحرب خاصة، وتنفلت من عقال من يبادر إليها. فالقوة لا تضمن الغلبة في الحرب. والهوة بين القوة (على معنى القدرات والموارد) والسلطان (القوة) لم تكن يوماً على هذا الاتساع. فقدرات الغربيين العسكرية وازنة ويعتد بها. ولكن النموذج الأميركي يتعثر منذ عشرين عاماً، ولا تزال نماذج القوة الغربية على حالها على رغم أنها تتعثر في بلوغ نتائج استراتيجية. ولا شك في أن مسألة نجاعة القدرات جوهرية. والغرب يحتذي على فكرة ليست في محلها مفادها أن الحرب تدور على تدمير الأهداف. ويأمل في أن تتحول القوة (القدرات) إلى سلطان يمسك بمقاليد الأمور. فيخوض نزاعات ليس في مقدوره حسمها والفوز بها، على نحو ما هي الحال في منطقة الساحل الأفريقي، أو يولي الأدبار، على ما حصل في العراق وأفغانستان.
وتتغير أدوار الجيوش وتتطور. ومكافحة الهجمات السيبيرنيطيقية قد تندرج في هذه الأدوار. فعلى سبيل المثل، جاز التساؤل قبل مئة عام عن صلة الجيوش بالطائرات. وواجب الجيوش هو اقتراح دفاع عسكري حين تقع هجمات عسكرية. والحرب تجتاح كل حيز يشغله الإنسان: الأرض والبحر والجو والفضاء والعالم السيبيرنيطيقي. ومخاطر الحروب السيبيرنيطيقية كبيرة. وفي المستقبل، قد يُسيطر «سيبيرنيطيقياً» في مثل هذه الحرب على طائرة وتحمل على السقوط. ولا أحد في مأمن من هذه الحرب (الحسابات المصرفية، وسائل الإعلام…). وإذا صار الخطر جماعياً، وسع الرد على الدولة التي تشن الهجوم وهي مصدر الخطر بوسائل تقليدية. والهجمات السيبيرنيطيقة قد تعيث الفوضى ولكن ليس الخراب، إذا اقتصرت على هجمات متناثرة ومحدودة النطاق. وثمة ميل إلى المبالغة في تقدير مخاطر أداة حربية جديدة. ولكن مرحلة التوعية لا غنى عنها. فهي تقلص مكامن الضعف في مواجهة خطر الالتفاف على القوات و(التسلل إليها).
وحين يتوجه إلي بالسؤال عن تغير صلة العسكر بالقتال إثر الانتقال من التعويل على الجندي (القوات البرية) إلى الدرون، وربما غداً من الدرون إلى الروبوت (الرجل الآلي)، أذكر بأن الحرب هي مواجهة بين الإرادات الانسانية وهي، على الدوام، نزاع بين البشر.
مركز الشرق العربي