لا ألوم أمريكا في استغبائها المعارضة السُّوريَّة، نعم، لا ألوم أمريكا ولا الغرب في استغبائهم المعارضة السُّوريَّة واستحقارها والانتقال من مناصرة الثَّورة السُّوريَّة إلىٰ محاربتها.
نقطتان قبل البدء:
الأولىٰ هي أنَّ الموقف الغربي كان حقيقةً في الأشهر الأولىٰ مناصراً للثَّورة السُّوريَّة متعاطفاً معها.
والثَّانية أني لا أريد التَّبحُّر في غباء المعارضة السُّوريَّة التي تنطعت لتمثيل الثَّورة، ولا لبلاهتها ولا لصوصيتها ولا استعراضها الأجوف، ولا عقد الزَّعامة ولا طعنهم ببعضهم بعضاً، فهٰذا بحرٌ يكاد يكون لا شواطئ له من كبره. أريد الوقوف فقط عند نقطةٍ واحدةٍ هي التَّعامل مع أمريكا وحدها دون سواها في إطار الثَّورة السُّوريَّة.
خلاصة تعامل المعارضة السُّوريَّة التي تنطعت لقيادة الثَّورة وتمثيلها أنَّ أمريكا تقول لهم: ثور، والمعارضة تقول: احلبوه. الثَّور هو المثل ولا أعني به أشخاص.
أعلنت أمريكا منذ بدء الثَّورة مئات المرَّات لا عشرات المرَّات أنَّها لن تسلِّح الثَّورة السُّوريَّة، وأنَّها لن تسمح بتسليح الثَّورة السُّوريَّة، وأنَّها لن تتدخل عسكريًّا لإنقاذ الشَّعب السُّوري ومع ذۤلكَ ظلَّت المعارضة علىٰ مدار سنوات الثَّورة تطالب أمريكا بالتَّدخُّل والسِّلاح وتنتظر التَّدخُّل وتقديم السِّلاح.
كيف تريدون من أمريكا أن تتعامل مع هٰذه البلاهة؟
قبل ذۤلكَ أتساءل: ما حقيقة هٰذه المعارضة في هٰذا السلوك الغبي؟
إِنَّهُم في حقيقة الأمر، ما عدا استثناءات قليلة، ثلَّةٌ من اللصوص والأفاقين والمتسلقين المتشردين في شوارع العالم الذين ركبوا الثَّورة، وراحوا يبيضون علىٰ السُّوريين الذي يعيشون في قلب البركان وتسيل دماؤهم أنهاراً. أدركوا حقيقة ألم السُّوريين وركبوا هٰذا الألم وعاشوا علىٰ حساب دمائه وعذاباته في فنادق الخمس نجوم، وساحوا في أرجاء العالم علىٰ حساب دماء السُّوريين وعذاباتهم، وأرادوا وما زالوا يريدون بقاء الثَّورة من أجل استمرار امتصاص دماء السُّوريين، ولذۤلك تآمروا مع مؤامرة الغرب علىٰ الثَّورة وعلىٰ سوريا وراحوا يبيضون كلَّ يوم المناشدات بالتَّدخُّل وطلب السِّلاح وطلب الحظر الجوي… ليظهروا علىٰ أنَّهُم يقومون بدورهم في حثِّ المجتمع الدولي علىٰ دعم الثَّورة، وأنَّهُم لا يقصرون.
هٰذا في أحسن الظنون. لأنَّ الظَّنَّ الثَّاني هو أنَّهُم يتجاوزون ذۤلكَ إلىٰ البلاهة الحقيقيَّة والغباء الحقيقي وعدم فهم ما يدور، وعدم القدرة علىٰ استقراء ما هو كائن، فأضافوا إلىٰ مسوءة الفساد الفاجر مسوءة الغباء والبلاهة. وإلا كيف يمكن أن أفهم أنَّهُم علىٰ مدار أربع سنوات لم يدركوا مئات التَّصريحات الأمريكيَّة بعدم التَّدخُّل وعدم المساعدة وعدم التَّسليح بل عدم السَّماح بالتَّسليح؟! بل إنَّ أكثرهم صار يعترف في الفترة الأخيرة بافتقار الإئتلاف إلىٰ القدرة علىٰ الفهم والتَّخطيط والتَّفكير…
سيقول بعضهم بأنِّي أتجنَّى. وأنَّ أمريكا ظلَّت تعلن دعمها للثورة، وظلَّت تعلن رغبتها في التَّسليح وهلم جرًّا.
حسناً. أنا لن أختلق شيئاً غير موجودٍ. ولن أتجاوز الخبر إلىٰ تأويله. سآتي بسلسلة تصريحات نشرتها في أوقاها وتواريخها منذ أوَّل الثَّورة إلىٰ اليوم. ولأنَّهَا كثيرةٌ جدًّا سأقف عند محطَّات فقط بالتَّاريخ والشَّخص، وكلها مما نشرته وعلقت عليه في وقته وحينه ونبهت إليه وحذرت من مغبة تسليم الثَّورة لأمريكا وحلفائها. لن أعرض كلَّ التَّصريحات في جدُّ كثيرة جمعتها مع تحليلي لها وتعليقي عليها في سلسلة كتابي: الثَّورة السُّوريَّة والمؤامرة الكونيَّة، ولوحات من ألم الثَّورة. سأقف عند محطَّات سريعةٍ وخاطفةٍ من أوَّل الثَّورة إلىٰ أوائل عام 2013م:
في 16/7/2011م فيما أذكر: اجتمعت قيادات المعارضة بالسَّفير فورد في بيت حسن عبد العظيم بدمشق، وقال لهم حرفيًّا: «لا تتوقعوا أن تتدخل أمريكا لمساعدة الثَّورة».
في 18/7/2012م: قال الأمريكيون بوضوح «لن نتَّخذ أيَّ إجراء قبل نهاية الانتخابات الأمريكية» وفي هٰذا إشارةٌ صريحةٌ إلىٰ عدم التَّدخُّل، ولذۤلك علَّقت قائلاً: «ولن يتَّخذوا أيَّ إجراءات بعد الانتخابات… لم تفهم قيادات الثَّورة ذۤلكَ ولن تفهم».
في 10/10/2012م: أمريكا وفرنسا تعلنان ضرورة تسليح المعارضة السُّوريَّة… وبعد يومين يعلنان أنَّ تسليحها يتنافي مع القوانين الدوليَّة…. تَكرَّر مثل ذۤلكَ بالحرف نحو عشرين مرَّةٍ علىٰ مدار السَّنوات الثَّلاث السَّابقة.
في 12/12/2012م: هناك طبخة أمريكيَّة روسيَّة لفرض حكومة وفاق من النِّظام والمعارضة وبقاء كلِّ شيء علىٰ ما هو عليه. وعلقت علىٰ ذۤلكَ: «لم يتغير الموقف الأمريكي بالجملة… متى يفهم أدعياء تمثيل الثَّورة؟». طبعاً هٰذه الحكومة هي الحكومة ذاتها التي تريد أمريكا فرضها اليوم لتفتيت السُّلطة ولبننة أو عرقنة سوريا.
28/12/2012م: كتبت استقراءً: هناك مشاريع قذرةٌ أمريكيَّةٌ إسرائيليَّة أوروبيَّة وحَتَّىٰ دول عربيَّة كبرى ضالعةٌ في موضوع دفع سوريا نحو محاصصةٍ طائفيَّة وعرقيَّة… بالمناسبة، كتبت عشرات المرَّات في موضوع المشاريع الخارجيَّة لدفع سوريا نحو هٰذه الهاوية بناء علىٰ معطيات وقراءة ما بَيْنَ السُّطور.
في 9/2/2013م: قال الرئيس أوباما: «لن نسمح بوصول أسلحةٍ نوعيَّةٍ للمعارضة تهدِّد أمن إسرائيل وأمريكا؟!». هٰذا الكلام لا يحتاج إلىٰ تفسير أكثر مما هو واضح فيه.
في 28/2/2013م: جون كيري يقول: «لن نسلح المعارضة السُّوريَّة حَتَّىٰ يتمَّ تطهير الجيش الحرِّ من الإسلاميين»… أي حَتَّىٰ يقتتل الجيش الحر مع بعضه ويترك النِّظام. هل تحتاج إلىٰ توضيح. وهٰذا ما يبدو اليوم بوضوح لا لبس فيه. من لم ير سابقاً لن يرى اليوم.
في 4/3/2013م: جون كيري: «سنعمل علىٰ دعم المعارضة السُّوريَّة وعدم تسليحها». هٰذا ليس تصريحاً فيما يبدو، إِنَّهُ سؤال الترليون دولار في من سيربح المليون.
هٰذه محطَّاتٌ عابرةٌ سريعةٌ من محطَّات كثيرةٍ من الموقف الأمريكي علىٰ نحو خاصٍّ، من دون التَّعريج علىٰ تعامل هٰذه المعارضة مع مواقف الدُّول الأُخْرَىٰ قاطبة. فيها دلالات واضحةٌ علىٰ حقيقة واحدةٍ هي أنَّ أمريكا لن تتدخَّل ولن تساعد الثَّورة السُّوريَّة ولن تسمح بسقوط النِّظام إلا في ظلِّ شرطين أو أحدهما:
الأوَّل: أيُّ نظامٍ بعد الأسد يجب أن يحقِّق المصالح الأمريكيَّة الإسرائيليَّة بامتياز.
الثَّاني: فرض نظام حكم (تحاصصي غالباً) يمنع سوريا من أن تكون دولة قادرة علىٰ أي فعل لعشرات السنين.
تيقنتْ أمريكا مبكراً لأسبابٍ كثيرةٍ من تعذُّر تحقُّق الشَّرط الأول فركَّزت مبكِّراً علىٰ الشَّرط الثَّاني وراحت تخطِّط بهدوء له وما زالت تسير علىٰ طريق تحقيقه.
المهم من ذۤلكَ كله أمران فيما يخص الإطار الذي نتحدث فيه:
الأوَّل: أنَّ أمريكا كانت واضحةٌ صريحةً منذ البداية في موقفها من الثَّورة والنِّظام، ولم تخدع أحداً أبداً، ولٰكنَّ قيادات الثَّورة السُّوريَّة السِّياسيَّة والعسكريَّة هي التي أصرت علىٰ عدم الفهم والتَّمسح بالحذاء الأمريكي بإلحاحٍ شديدٍ طلباً لما أعلنت أمريكا مراراً أنَّها لن تقدِّمه. ولذۤلك اضطرت الولايات المتحدة بَيْنَ الحين والحين إلىٰ تصريحاتٍ مواربةٍ وخداعٍ وضحكٍ علىٰ اللحىٰ من قبيل: سنسعىٰ… سنسلح المعارضة بأسلحةٍ غير قاتلةٍ، سندعم الثَّورة مساعدات فنيَّة من قبيل أفلام كرتون… كلُّه مسخرة بمسخرة اقتضتها، ما عدا طبيعة السِّياسة الأمريكيَّة، بلاهة قيادات الثَّورة وعلىٰ رأسها الإئتلاف.
الثَّاني: هٰذا الغباء نفسه أتاح لأمريكا التَّخطيط كما تريد لتحقيق مصالحها ومشروعها من تقدُّم الثَّورة وتقهقرها والسَّيطرة علىٰ الجيش الحرِّ أو ما تسميه المعارضة المعتدلة وَفْقَ مسلسلٍ طويلٍ ما زالتْ في بدايته لأنَّهُ حَتَّىٰ الآن لم تفلح في تكوين جيش سوري مرتزق تعتمد عليه. نجحت في اختراق الجيش الحر، وتكوين خلايا وتشكيلات صغيرة، ولۤكنَّهَا كلها غير قادرةٍ وليست مضمونةً. وأمريكا تدرك هٰذه الحقيقة، ولذۤلك تظلُّ تنغِّم علىٰ ضرورة بقاء الأسد، وأخيراً دخول أمريكا في حوار مع الأسد.
المسلسل طويلٌ أليمٌ. صريحُ ما أردت قوله، وما أريد أن أختم به، أنِّي أتوجَّه باللوم والاتهام والإدانة إلىٰ الأدعياء الذين قادوا الثَّورة في غفلة من الشَّعب السُّوري وضرورة اقتضها المرحلة… هم المسؤولون عن إطالة أمد الثَّورة والضياع والفوضى والعبثية التي وصلت إليها الثَّورة وسوريا.
ويجب أن يدرك كل من يقرأ أنَّ إدانتي لقيادات الثَّورة لا تعني أبداً أني أدافع عن النِّظام ولا أبرئه، بل أحمله المسؤولية الأولى، لأَنَّهُ لولاه لما وصلت الأمور إلىٰ ما وصلت إليه.
المصدر: سراج برس ـ عزت السيد أحمد