تقول روايات متواترة أن نوعاً من تململ، ويأس، وغضب يمور في مناطق الساحل.. وترد أرقام كبيرة عن الخسائر التي منيت بها ” الطائفة” الموالية للنظام. هناك من يتحدث عن مائة ألف، والبعض يزيدها إلى 160 ألفا!، وآخرون يوردون رقم 200 ألف، معظمهم من الشباب الذين سيقوا إلى التجنيد، أو كانوا ضمن الجيش، والدفاع الوطني، ومليشيات الشبيحة، والذين جرت تعبئة أغلبيتهم بمنظومة من التخوّفات من آخر سيبيدهم، أو يهجّرهم، وأن النظام وحده حاميهم، ومسؤول عن مصيرهم.. وأنهم في طريقهم للنصر، وتصفية القوى الثائرة .. وكان شعار ” الأسد أو نحرق، وندمّر البلد” يجد مرتسماته في اندفاعة عديد من الشباب الذي صدّق تلك المقولات، ووجد نفسه بين رحى الخوف وأوهام الانتصار….الحتمي..
وحين امتدّ الزمن، وأثبت النظام فشله في القضاء على الثورة.. ووصل في نهاية عام 2012 إلى الانهيار الشامل لولا الإنجاد الإيراني والمليشيات الطائفية الشيعية . وحين راحت التوابيت المغلقة، والجثث الكثيرة تتوالى بصمت وتعتيم، والمدافن السرية تكثر .. وانسدّ أفق الحسم والنصر.. تبلبلت تلك الاندفاعات، وتسربلت عبر كثير المظاهر التي تريد التعبير عن حالة إحباط عميم، وتوجيه المسؤولية لأصل البلاء، ومن يرمي بالشباب في أتون المحرقة كبوش فداء لعائلة الأسد ومجاميع المافيا النهبية، الإجرامية .
ـ وطالما أن الأفق مسدود تماماً على قدرة النظام في إنهاء “الأعداء” ـ الثورة ـ حتى لو أنجدته قوى الدنيا المتحالفة معه، وحتى لو احتلت إيران كامل سورية، وقدّمت له روسيا كل ما تقدر..لأنه في مواجهة شعب، وليس مجاميعاً من الإرهابيين والعصابات ـ كما يدّعي وزمره الارتزاقية ـ فمن الطبيعي جداً أن يفكر الكثير بواقعهم، ومصالحهم، ومكانهم، ووجودهم، ومستقبلهم، وأن يفكروا بحلول خاصة، ولو كانت خيوطاً يتعلقون بها، وأن يصاب الكثير بالإحباط، وردّ الفعل السلبي ضد النظام,, وسيبحث عديد عن مخرج ومهرب… بينما يمكن لقلة من المغسولة أدمغتهم، ومن خلاصات الإجرام أن يواصلوا نهجهم الطائفي، وحقدهم، وبقائهم في مستنقع الجريمة.. ولعنة التاريخ ..
ـ لكن، بالمقابل، يجب الاعتراف الصريح أن تلك الململة، وما يحكى عن حراك متقلقل، وعن وجود سخط عام، وأصوات رافضة للتجنيد ومقتل أبنائها.. وشيء من احتجاجات متقطعة، وغير ذي فعالية.. أنها جميعها لم تصل حدّ البلورة عبر حركة شبه جمعوية، ولم يبلغ تأثيرها مستوى يمكن رؤيته بوضوح، والاستناد عليه في التحليل والتركيب، وأن أحاديث وحكايا عديد المعارضين الذين يأملون بوجود حراك رافض قوي داخل “الطائفة” هي أمنيات ورغبات تتسم بالمبالغة، والخلط بين الواقع وحيثياته، وبين ما يجب أن يكون ويحدث ..خصوصاً وأن توقعات كثيرة كانت ـ على مدى أشهر الثورة الأولى ـ تعتقد أنه لا بدّ من حركة ما داخل أصحاب القرار في الطائفة توقف القتل وإجرام النظام، وتضع حدّاّ للعصابة الحاكمة : إنقاذاّ للوطن، والوحدة الوطنية، والطائفة أيضاً، وأن مراهنات داخلية وخارجية قامت على تلك التقديرات..في حين تتحدث القصص عن محاولات فشلت، ونوايا نُحرت، واعتقالات وتصفيات وعمليات إبعاد تمّت، وهناك من يرمي المسؤولية على الآخرين : المعارضة والإسلاميين .. لتكريس النتيجة البارزة : أن معظم أبناء الطائفة ظلوا أقرب للكتلة المتماسكة حول النظام، وان حركة المعارضة المحسوبة عليها عرفت تراجعات وانكماشاً وتحولاً واضحاً، والبعض آثر الاصطفاف في خندق النظام، أو الحياد، أو الدعوة إلى المصالحة بلا قيد أو شرط، .. مع البقاء على النظام ورأسه.. أو رمي العبء كله على” الجانب الآخر” ومقولات الثورة المخطوفة، والثورة المأسورة، والثورة المغدورة، أو الثورة التي لم تعد ثورة!!!، وبما وسّع دائرة ومروحة الشكوك داخل أطياف معارضة بالمعارضين المحسوبين ـ بطريقة ما على الطائفة ـ ..وأدّى ذلك، بالتفاعل مع العوامل الأخرى السيرورية للثورة والأحداث والتطورات، إلى وضع” الطائفة” في موقع المتهم، والتعامل معها ككتلة صمّاء، موحدة، وغلى نظرة مليئة بالحذر والشكوك من كل من يُحسب على الطائفة، وحتى على جميع” الأقليات” الدينية والمذهبية .
ـ لاشكّ أن عوامل متراكبة تتفاعل لإنتاج هذه الحالة، والتي في مقدمها :
1 ـ منسوب نجاح النظام، على امتداد العقود، في التغلغل داخل الوسط الشعبي للطائفة وكسبها لصالحه، والحقيقة أن الأمر لم يقتصر على ذلك الوسط بل إن جلّ النخب المثقفة، المتعلمة، والتي استفاد كثيرها من النظام في البعثات والمواقع، أو في الجيش والأجهزة الأمنية.. هي ملحقة بالنظام، وموظفة كجزء من مجموع منظومته القمعية، والإخضاعية، والتزييفية.. وانها قامت وتقوم بأقذر الأدوار في التعبئات والحقن وحتى الانخراط في العمل المسلح، والدعوة على مزيد القتل والتصفيات.
هنا يجب التذكير بأن النظام، خاصة بعد تلك المواجهات مع ” الحركة الدينية” في السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي ، استطاع أن يقدّم نفسه كراع، وحام، وسند، وملجأ، وسيف لعموم الطائفة ـ على اختلاف توزعاتها العشائرية، والسياسية، وأنه هو، وهو وحده الذي يجنبها الذبح والتصفية على يد آخر حاقد على مدار التاريخ، والواقع .
2 ـ إن تعضدي البنى المتخلفة وجدت في نظام الفئوية، والأحادية المناخات المناسبة للنمو، واجتياح الفكر التقدمي، والديمقراطي في عموم المجتمع السوري. وبدلاً من عمليات التحديث، والتنوير، والإزاحة.. جرى العكس على هشيم فشل المشروع النهضوي، التوحيدي، الحداثي، ولعب نظام مملكة الرعب بوقائع الترايخ ومفرزاته كي يحوّله على أوراق للعب والاستخدام، وبما أنتجه ذلك النهج من شروخات عميقة في الوحدة الوطنية لم يكن لمنسوب القمع القوي أن يزيلها، حتى وإن منع بروزها إلى السطح .
3 ـ لقد ظلّ الخلاف قوياً بين القوى السياسية، وداخلها حول تحديد طبيعة وهوية النظام، وموقع الطائفية فيه، ومساحتها، وأسرارها.. وهل يقوم بتوظيفها واستخدامها فقط، أم أن الفعل الطائفي مبرمج، ومنظم، وجزء من مخطط عام استهلك البعث وشعاراته، وداس على المبادئ، والغايات، ووظفه ممراً، وواجهة، وممسحة؟؟…وانعكاس ذلك الخلاف على خلافات قوية في تلك القوى ونظرتها للنظام، ومكانة إسقاطه، والحالة الطائفية ومخاطرها، وتعارضها مع ألف باء الوطنية، والشعارات الكبيرة المرفوعة.
4 ـ يجب الإقرار أنه بظل سقوط مشروع النهوض القومي، الحداثي، والارتداد البنيوي، والمنظّم عليه بخلق استنادات أخرى شديدة التخلف، والغش، والباطنية.. نمت الظواهر الدينية والمذهبية بديلاً.. ووجدت في أوساط الطائفة العلوية ـ ولو بشكل غير معلن ـ كتلة كبيرة تعتبر النظام نظامها، وأنه يوفر لها الامتيازات، والسلطة، ويحميها من آخر ـ أكثري ـ جرى تضخيمه كثيراً إلى درجة التهويل، والتحويل إلى بعبع مقيم في قاع الذاكرة والمواقف التي تظهر فاقعة عند المنعطفات، والامتحانات الكبيرة.. والتي كانت الثورة السورية كاشفها الأكبر.. وقتما أبانت وجود أغلبية ثقيلة متخندقة مع النظام، وملتفّة حوله حتى في سياسات الامتناع عن الاستجابة لمطالب شعبية كانت عادية، وفي تطورات مسارات الثورة..
5 ـ بالمقابل.. فإن الخطاب” السني” الفالت من بعده الوطني من قبل بعض من ركبوا الثورة، وامتطوا شاشات الفضائيات، ثم سيطر عديدهم على العمل المسلح.. والذي اتصف بالأحادية، وردّ الفعل، وبمنسوب طائفي أيضاً..أسهم في عملية التخويف، والشك، والحذر، وقدّم للنظام ومدفعية إعلامه القذائف اللازمة، والذخيرة الكبيرة..
وحين قاد العمل المسلح، وما دخل عليه من قوى إقليمية وخارجية، وما عرفه من تحولات..إلى سيطرة شتى الأطروحات الإسلامية ما فوق وسطية النافية للآخر، وحتى المعادية.. والانخراط الساذج في خط الصراع المذهبي : سنة مقابل شيعة..توفّرت كثير المبررات لبقاء تلك”الكنتلة” صامدة، وثابتة حول النظام.. بل لقد رفدتها فئات كانت أقرب للحيادية والعقلانية .
6 ـ يجب الاعتراف هنا بأن مساحة وموقع الاتجاهات الديمقراطية، واليسارية، والعلمانية داخل المنتمين إليها، والرافعين شعاراتها بكثير الصخب والاندفاع، والتبسيط، وحتى السطحية.. ونخصّ هنا المحسوبين على الطائفة العلوية بوجه الخصوص، تبدو متخلخلة ومتخلفة وكأنها رد فعل انحيازي على آخر. وأن ذلك البعبع الأكثري قابع في أعماق الكثيرين، ويظهر تأثيره الفاقع في مواقف وتبريرات وتحليلات لا ترى سوى ما يفعله الاتجاه الإسلامي ـ متعدد التباينات ـ من فعل استئصالي، وعدائي، وتشويهي، والاستناد إلى ذلك في تبرير مواقف تصبّ ولو من حيث النتيجة في خندق النظام.. وبما يخلط التخوم، ويثير زوابع الريبة والشك .
7 ـ بالقطع فإن ضعف المعارضة السياسية التقليدية التي كانت متجاوزةـ على العموم ـ للخّندقة الطائفية، وما شهدته المنطقة من صراعات قسرية بصبغة طائفية، خاصة ما يجري في العراق.. وصولاً إلى سورية.. ودخول المليشيات الشيعية بقوة مذهبية مملوءة بالحقد، والرايات الدجّالة.. وتوليد التطرف من رحم التطورات، ومن بيوت أجهزة المخابرات السورية والعراقية والإيرانية والخارجية ثم إطلاقها لتصير حالة متوالدة لتفريخات كثيرة.. ليست “داعش” سوى تأصيلها الأعتى..
هذه الأوضاع تمنع بروز حالة احتجاج قوية في الطائفة العلوية، أو خلخلة تلك الكتلة المتماسكة من داخلها، أو بفعل العوامل الخارجية عليها.. وبما يطرح أعباء كبيرة على جموع القوى الوطنية للتفكير بوسائل استراتيجية للتعامل مع وضعية لا يمكن تركها سبيّة لدى النظام ..وبهدف طرح خطاب وطني عام جوهره الوحدة الوطنية، وجذره المساواة في الحقوق والواجبات في الدولة المنشودة، وطريقه التسامح، والاحتواء على قاعدة الاعتراف بجميع مكوّنات الشعب السوري وحقوقها، ومحاسبة المجرمين والقتلة في محاكم عادية بعيداً عن منطق الثأر، والانتقام، وسياسة التعميم، والأحكام الجمعية .
عقاب يحيى 15 نيسان 2015