نختلف عن غيرنا -نحن أهل مدينة الرقة- أننا نعطي الرشوة للمسؤول في الصباح وفي المساء، وبعد أن تخلو المضافات من مخبريها، ونتأكد من أن “الجو” آمن، نفشي لبعضنا ما دفعنا، وكيف دفعنا، ولمن دفعنا.
لهذا يندر أن تجد “رقِّيًّا” لا يعرف أسماء المرتشين في المدينة، وحجم وطرق الرشى، التي كانت تدفع لمسؤولي ورجال الأمن في ذاك الزمان، يوم كانت عائلة الأسد وحزب البعث يحكمون تلك الديار!
تتنوع الرشى.. بعضنا يقدمها “كاش” بالعملة السورية، من أمهات صورة المقبور (فئة الألف ليرة) أو أمهات الطربوش (فئة الخمسمائة ليرة)، وقلة منا يدفعونها بالدولار أو غيره من العملات الصعبة، وهذا يحدث مع المسؤولين القدامى، الذين اكتشفوا أهمية فتح الحسابات في “بلاد برة”، وهم لله والتاريخ قلة في الرقة، وبعضنا الآخر يقدمها قطعة ذهب أو عقد من اللولو لزوجة المسؤول، وبعضنا طقم كنبايات أو غرفة نوم، وبعضنا “يطرق مشوار” إلى ريف اللاذقية وطرطوس، ليتعرف على عائلة المسؤول.
(نحن في الرقة محكومون بمسؤولين وأمنيين ومعلمات من مناطق شطحة والهنادى وبعض القرى في ريفي اللاذقية وطرطوس) ويقوم بالواجب، بعيداً عن عيون الحساد، وهؤلاء غالبا ما يكونون من المقربين، والمخبرين المحترفين القدامى، الذين يجيدون صياغة تقاريرهم بعباد الله بإحكام، وكله -طبعاً- من أجل الوطن وقائد الوطن وهيبة الدولة العتيدة!
الاستثناء الوحيد كان حين عينوا “محمد نجيب السيد أحمد” محافظاً للرقة، والذي لم نعرف حتى الساعة لماذا كان هذا التعيين المخالف للقواعد، فعادة يتدرب المسؤول بنا، ثم ينتقل إلى العاصمة وزيراً أو عضو قيادة، والأمثلة كثيرة، مثلا “محمود الزعبي” تدرب عندنا مديراً لمؤسسة حوض الفرات ومنها فتح عليه الكريم صنبور الجاه والمال فأصبح عضو قيادة قطرية، ثم رئيس مجلس الشعب، وأخيراً رئيساً لمجلس الوزراء، ثم انتحر بخمس رصاصات!
ومثله “محمد سلمان” الذي جاءنا محافظاً يقاسمنا حلالنا “فيفتي فيفتي” على العكس من سابقه الشبعان، الذي كان يرضى بالعشرين بالمئة، وأحياناً أقل، ومن الرقة انطلق “محمد سلمان” وزيراً للإعلام، حيث وضع كل خبرته التي تعلمها فينا في وزارة الإعلام، التي تحولت إلى إدارة أمنية -بين المخبر والمخبر مخبر- إضافة إلى حرصه على تأنيثها، فكان هناك تحت بند “وظيفة مذيعة” 137 مذيعة (يقال إن الـ CNN فيها 16 مذيعة فقط..) خلفهن دعم يبدأ من مساعد في هذا الفرع الأمني أو ذاك وصولاً إلى رئيس الفرع، أو من موظفي القصر الجمهوري وصولاً إلى رأسه!
نعود إلى أبو نجيب الاستثنائي، فهو جاءنا محافظاً بعد أن كان وزيراً، ربما ليقربنا من المدنية التي اكتسبها في العاصمة، ويدخلنا -نحن “الهمج”- إلى الحضارة من أوسع تجلياتها.
وهذا المحافظ يمتاز بمآثر عديدة، ففي عهده عرفنا أفضل طرق الحصول على دبس البندورة، التي كان مغرماً بإنتاجها، إلى درجة أن سطح قصر المحافظ يتحول في موسم البندورة إلى أحمر ولا أروع عند مغيب الشمس، وفي عهده اكتمل الاحتلال الإيراني للرقة بانتهاء أعمال بناء مقام “عمار بن ياسر”، الذي تم ضخ ملايين الدولارات لبنائه، ومعه قاموا بنشر التشيع، حيث يوزع على كل متشيع عدداً من الفراريج والبرغل والرز والزيت مع شوية مصاري كراتب شهري.
ومن مآثره -أيضاً وأيضاً- ولأنه من المقربين من حافظ الأسد، كما يقولون، وحرصاً منه على صحتنا كي لا نطيل السهر في المضافات، وفي هذا توفير لفواتير الكهرباء، ولأن السهر يقصر الأعمار، وخوفاً علينا من أن “يمزط” بيننا مخبر “يودينا بداهية”، فنتهم بالتآمر على هيبة الدولة، فإنه ابتكر لنا فكرة إقامة أعياد الميلاد لنجله، كي نجتمع فيها بدلاً عن المضافات، حيث كان يحرص -سيادته- على إقامة حفلتين سنويتين لعيد ميلاد نجله الأكبر.. فقط حفلتين.. واحدة عند قبض “بونات” موسم القطن، والثانية عند قبض “بونات” موسم القمح والشعير، وأحياناً، إذا كان الربيع طلق في ربوعنا، يكرمنا الرجل بحفلة ثالثة، لمن لم تسمح له ظروفه حضور الحفلتين، وهذا الحفل الاستثنائي يكون عادة مع موسم تسمين الخراف والجبن وشقائق النعمان والعشب الذي يخفي رجلاً واقفاً!
يصف لي “أبوعبده” حلاق المحافظ حفلات أعياد الميلاد، التي لم نكن نعرفها من قبل، لأن غالبيتنا لا يعرف تاريخ ميلاده، فهذا ولد سنة الجوع، وذاك ولد سنة الثلجة، والثالث سنة دخول فرنسا، والرابع سنة تسليم الجولان وهلم جرا! فعلى ذمة أبوعبده، فإن المدعوين المعايدين يصطفون رتلاً أحاديًّا بعباءاتهم المطرزة بالقصب وببناطيلهم المكوية، فالمحافظ لا يفرق ين عباءة وبنطال
(إنه من جماعة معس الأصالة والمعاصرة مع بعضهما) ، وكل مدعو يضع في الصندوق الموضوع بين المحافظ ونجله (هديته!)، وعادة تكون، إما مغلفاً سميناً يحرص المعايد على أن يشاهده المحافظ وهو يضعه قبل أن يحييه، أوعدة قطع من الليرات الذهبية الإنجليزية أو العثمانية، أو بعض أونصات الذهب. وبعض المتخلفين منا (قلت لكم نحن شعب من الهمج!) يدخل متمختراً واثق الخطى خالي اليدين، وابتسامته تملأ وجهه بالكامل، ويغمز للمحافظ وهو يسلم عليه، فيفهمها سيادته “عالطاير”، حيث يكون المعايد قد سلم الحجاب وحراس القصر عدداً من الخراف، أو بعض تنكات الجبن والسمن قبل دخوله القاعة، ويقول أبوعبده إنه في آخر حفل عيد ميلاد دعي له، وكي “لا يخربط” السيد المحافظ بين خروفه وخراف غيره، قام بتزيين قرون خروفه، ولم يترك الحفل إلا وأخبر أبو نجيب عن هديته المميزة!
المشكلة التي لم نجد لها نحن أهل الرقة جواباً، ولا أبوعبده أيضاً، والتي يتهامس بها المدعوون كل مرة، هي عدم قدرتهم على تفسير لماذا ينسى أبو نجيب “التورتة” مكتفياً بالسلام على المعايدين وتقديم كأس شاي عالواقف! كما أننا لم نجد حتى الساعة تفسيراً لغمزه لنا إن تكلمنا خارج السطر قليلاً، فهو مثلنا يخاف الوشاة، وفي عهده الميمون أصبح رئيس كل فرع أمني دولة داخل الدولة، رغم أن مجيئه ترافق بدعاية أنه من المقربين من حافظ الأسد!
في كل الأحوال.. لله دره كم كان يحبنا “أبو نجيب”.. فهو قد اكتفى بحفلتين وواحدة استثنائية، ولم تطاوعه نفسه فيرهقنا بحفلات شهرية أو فصلية.. يا إلهي كم أنت قنوع يا أبو نجيب!
هافينغتون بوست عربي