قصة خبرية بقلم : محمد إسماعيل
” الأرض مثل العرض، يا أم جمعة “،
” الله يحمي أرضك وعرضك يا أبو جمعة”، انزل اشرب الشاي الان يوشك أن يبرد “.
كان يقولها أبي لأمي وإخوتي كثيرًا أثناء موسم قطف حبات الزيتون في مدينتي عزاز بريف حلب ونحن مجتمعون قد وضعنا بعض الخرق الكبيرة
تحت كل شجرة لنجمع الزيتون.
كانت تتكرر جملة أبي في موسم قطف حبات الكرز وهو متسلق إحدى الأشجار أيضاً. كنت صغيرة تأخذني أمي معها. هذا جيد لأني كنت أحب أكل الكرز من الشجرة مباشرة بعد مسح الحب قليلا.
في كل عطلة أسبوعية وعطلة ربيع، كان والدي يأخذنا إلى عزاز. بين حلب الحمدانية التي كأنك تسمع فيها أصداء شعر المتنبي الشجاع، و مدينة عزاز التي ورد اسمها بـ “هازار” عندما اكتسح الآشوريون سورية، ثم تم فتحها على يد مالك بن الأشتر عام 15 هجرية، والتي تعني ” الأرض الصلبة”، تنتشر هناك أشجار الزيتون الخضراء وشجرات الكرز والكرمة، متشبثة بتلك الأرض الصلبة.
ومع بدء الثورة السورية، بدأ القلق يظهر على ملامح والدي، فهو الذي شهد ثورة الثمانينات الدموية في سوريا، تسرع قطار الأحداث، وعمت الثورة أرجاء سوريا، كان أخي ذهب للخدمة العسكرية.
مع انتقال أخبار الثورة في عدة مدن التي تصلنا عبر قناة الأورينت الممنوعة مع أخبار قناة الجزيرة، كان والدي يغضب خوفا علينا و يطلب منا خفض الصوت دائما خشية أن يسمع أحد صوت التلفاز ينقل احداث الثورة ، فيعتقل الجيش أحدنا!
كنت أشعر أن حياة جديدة ستعيشها بلدي، فقد عمت الثورة كل المدن ووسائل الإعلام تنقلها. لن يستطيع النظام إخفاءها هذه المرة أو الكذب كما فعل في الثمانينات.
أمي تبكي ولا أدري لم! شعرتُ بالخوف لبكائها فقلت لها: ” لم البكاء أمي ” !
قالت: أخوك عبد الكريم لا أدري ماذا يفعل الآن وأين هو؟
هل هو مقتول، أم يقتل؟ لا، أنا لم أربيه ليقتل الأبرياء!
كانت قلقة على عبد الكريم، وتنتظر مكالمته.
في الليل تمكن عبد الكريم من الاتصال بنا يخبرنا بأنه أخذ إجازة لمدة قصيرة.
لم يستطع القدوم لوحده فقد منع النظام بعض العساكر من التنقل بين المدن إلا بوجود أم أو أب له.
ذهبت والدتي لحمص لتأتي بأخي، بقي أخي عند عائلة صديقة لوالدي، التقت به أمي هناك، وحالاً اتصلت بوالدي و طمأنتنا عليه، تتكلم مع أبي الذي فتح الميكروفون ليسمعنا صوتها بلهفة شديدة والفرح يملأ كلماتها. رجعت به لاعزاز في اليوم الثاني حيث كان الجيش موجوداً في المدينة.
في اليوم الثاني انتظرنا أمي وأخي. لم يخرج والدي للأرض. كان يبدو على وجهه
ملامح القلق والخوف. لم أجرؤ على محادثته. تتصل أمي بعدها بساعتين، تخبره أنهما وصلا لمشارف عزاز فسجد لله شكراً.
منار بنتي، أحضري وعاء الكرز الأحمر وتعالي نجني بعض الكرز
لعبد الكريم، بالتأكيد أنه يشتهيه ،قلت له يالله إني قادمة.
ذهبت مسرعة, أحضرت وعاء الكرز الأحمر الذي تضعه أمي على الرف الثاني في المطبخ، وركضت باتجاه والدي الذي ينتظر تحت شجرة كرز كبيرة، وهو يقول لي على مهلك يا بنتي.
كنت أتخيل مشهد قدومهما، ركضت تلقائيا، من فرحتي!
بث أبي فيّ الفرح لعودتهما.
ملأنا الوعاء بحب كرز كبير وناضج ،عدنا للبيت ننتظر أمي وأخي اللذان وصلا سالمين لله الحمد، دخل أبي مسرعاً، وتبدل قلقه فرحا، قبَّل عبد الكريم يديَّ والدي، وقبل ورأسه، وضمه ثم سلم علينا جميعا وهو يقول لي: كيفك يا صغيرة!.
“كيف أوضاع الشام وحمص” ؟
” كان الله في عون الناس العزل، الجيش يطلق النار على المتظاهرين، يضعون العناصر في المقدمة وأجهزة الأمن من الوراء، من لا يطلق النار يقتل أو يسجن بتهمة التعاطف والخيانة “، رد علي عبد الكريم.
“أخي أنت أطلقت الرصاص عليهم “؟
“لا، لم يأخذوني والحمد لله وإلا لم تكوني ترينني الآن حياً.
الآن ماذا ستفعل؟ ”
” ماعندي خيار، إما الهرب منهم لتركيا أو الموت في الاعتقال أو الرجوع لقتل المتظاهرين” .
الكثير من السوريين هاجروا لتركيا بعد أن فتحت لهم الحدود، انشقت أعداد من العسكريين والضباط ولجؤا لتركيا. قرر أبي وأمي الهجرة لتركيا،
فقلت لأبي وأرضنا؟!!
قال لي: العرض أهم والروح أهم.
لكن يا أبي كنت تقول لنا لا الأرض مثل العرض!!
قال نعم إلا أن الأرض هي عزاز وعزاز ستبقى لنا.
الناس تغلي في اعزاز، الأخبار مؤملة.
خرجت مظاهرة في اعزاز تندد بالنظام بعد يومين، فشرارة الثورة
انتقلت إلينا سريعا.
” الشعب يريد إسقاط النظام”، “سوريا حرة حرة، بشار اطلع برة ”
وصيحات تهتف بدم الشهيد، سمعتها وأنا في طريقي للدكان، فذهبت لمكان الصوت، أثار فيّ الحماسة ذلك المشهد، كنت فتاة قوية كما يصفني أخي الكبير جمعة دائما، وعلى الفور دخلت بين المتظاهرين ووصلت للشاب الذي يمسك الميكروفون ويهتف، فشددته وقلت له أريد أن أغني.
فنظر إلي، وعرفني ابنة أبو جمعة، رسمت لي فتاة على وجهي علم الثورة بيدها، قال الشاب الذي يلف على رأسه علم الاستقلال السوري، وفي يده يلبس أساور بلاستيكية للعلم نفسه، تعالي قفي هنا، وقفت أمام الجموع المحتشدة، فاض الدمع من عيني، وثارت مشاعري عنان السماء، وبدأت أنشد وأنادي بسقوط النظام، كان تفاعل المتظاهرين معي وتردديهم لكلماتي قد ألهب قلبي شعلة حماس وغضب وتمنيت سقوط النظام لحظتها كثيرا.
لكن بعد أيام قليلة وصل الخبر أن بنت أبو جمعة العبد الله شاركت
بالمظاهرة وغنت، بالإضافة أن عبد الكريم في خطر، فغادرنا عزاز سريعا لتركيا عن طريق التيل ودخلنا تركيا بلا أرض زيتون ولا كرز الذي قال أبي عنه أنها كالعرض وهو متسلق لشجرة زيتون أو كرز.
سكنا في غازي عنتاب، مدينة كبيرة جدا وأبنيتها عالية، شوارع نظيفة
إنها جميلة جداً، لكني خفت أن أضيع، فهي ليست كاعزاز يمكنني الذهاب للدكان والتجوال قليلا لوحدي.
كنت أظن أن ينبغي على الناس أن يأتوا إلينا ويحيونا لأننا هاجرنا من بلدنا، وهربنا من الموت وأنهم ينبغي عليهم التعاطف معنا، ولابد أن يقدروا هذا الموقف. لكني أراهم يمشون من جانبنا ولا يكترثون، كنت أود أن أحكي لهم ما جرى معنا.
سكنا في قونيا، وبدأ أبي وأخواي يبحثان عن عمل. فأرض الزيتون والكرز، لم تهاجر معنا، مع أني في كل يوم أتذكر طعم حب الكرز الذي كنت أجنيه من الشجرة وأمسحه قليلا وآكله.
لم يكن في قونيا سوريون كثر، وصَعُبَ عليَّ التعامل معهم، ففي كل مرة أذهب للدكَّان أستخدم الإشارات لأشير للبائع ما أريد شراءه.
كنت أسمع تمتمات لم أفهمها منه، ونظرات لم أرتح لها.
بدأت بدخول مدرسة سورية بعد فترة، فقد زاد عدد اللاجئين، وفتحوا لنا مدرسة سورية، وتعرفت على بعض الصديقات السوريات شممت منهن رائحة الكرز، ولاح لي مشهد اعزاز والكرز فيها.
كنت أحدثهن عنها، وأقول لهن أني سأطعمكن منها عندما نعود، ولكن بشرط أن تساعدننا في قطف الزيتون! وكنَّ يضحكن!
في مدينة قونيا، سمحت لي والدتي بالالتحاق بمعهد للبنات لتحفيظ القرآن، كانت البنات غالبيتهن أتراك، كان يلزم من يلتحق به بالمبيت فيه سائر الأسبوع.
لم تعارض عائلتي، أمي شجعتني، وأرادت أن أحفظ القرآن، ولكن
استطعت أن أحفظ 10 صفحات يوميا، وسبقتُ البنات التركيات، فبدأ البعض منهن يحسدنني وينظرن لي أني لاجئة غريبة فكيف لي التفوق عليهن.
أخبرتُ الآنسة عائشة بذلك، معلمة القرآن التركية اللطيفة، فقالت لي إنه شيء عادي أن يغرن منك، فهن يحفظن كل 4 أيام صفحة، وأنت تحفظين 10 كل يوم، وهذا توفيق من الله إليك يا ابنتي.
طلبتُ من الآنسة عائشة السماح لي بالذهاب وقت الطعام للمنزل، الطعام التركي لم يرق لي، ولم أحبه، طعام أمي فيه رائحة اعزاز، فوافقت الآنسة مع أن قانون المعهد لا يسمح بخروج أحد.
زارنا المفتي وعلم أن نحفظ 10أوجه، ” انظروا للسوريات، جئن منذ فترة قصيرة ثم سبقنكن، يحفظن 10 أوجه كل يوم، وأنتن تحفظن وجها كل 4 أيام، من تحفظ القرآن خلال 5 أشهر سنأخذها عمرة”, هكذا خاطب المفتي بنات المعهد في أول زيارة له بعد التحاقنا به.
فتح الله علي في الحفظ، وأحببت القرآن وجعلته متنفسي ومخرج همومي، أعطيته كل الوقت والجهد خلال مكوثي في المعهد، بعد مضي خمسة أشهر لم ننته كلنا من الحفظ، أنا أنهيته، لكن لم نستطع كسب الهدية بالذهاب للعمرة، المفتي يبدو أنه نسى، كما أن الآنسة عائشة غادرت المدرسة من فترة. ولكني حصلت على المرتبة الأولى في حفظ القرآن، وهذا شيء لم يخطر ببالي يوما ما.
جاءت منظمة ihh وقدمت لي بعض المساعدات، علموا أني حزت المرتبة الأولى في الحفظ.
تمنيت لو تم تكريمي بحفل مع البنات التركيات. لأرى من خلاله بعض الكرز والزيتون، لكنه لم يحصل.
للتواصل مع الكاتب:
Smaylmhmd10@gmail.com
00905396375095
المركز الصحفي السوري