- ثلث ضحايا تفجير مرفأ بيروت في 4 آب هم من السوريين،حتى الآن لا حصيلة مؤكدة لعدد المفقودين منهم أو الضحايا، والسفارة السورية أعلنت أن 43 شخصاً من مواطنيها هم في عداد ضحايا الانفجار. هنا قصص بعضهم.
“التراب حق للجميع، ما لازم يكون غالي، هل هناك ثمن أغلى من دمائنا لندفعه؟ روان رحلت فوق مأساة رحيلها كان علينا أن نقلق بشأن المكان الذي سيرتاح جسدها فيه”.
يرتجف صوت ريما شقيقة الضحية روان مستو التي قضت في انفجار بيروت وهي تروي مأساة عائلتها.
الجريمة وقعت في بيروت، أما صوت الموت فامتد صداه ليصل إلى دمشق، التي لجأ أبناؤها إلى لبنان، إما للدراسة أو العمل، أو هرباً من الحرب. وروان ولدت منذ 22 عاماً في بيروت، كبرت مع أمها الصحافية السورية التي صارت تقدم القهوة في مجالس العزاء، كعمل بديل، لإعالة عائلتها، حتى توعكت ولم تعد قادرة على العمل فصارت روان المعيل الوحيد للعائلة الصغيرة المؤلفة من 4 افراد بعدما طردت شقيقتها ريما من عملها لأن قوانين العمل تضيق على توظيف السوريين.
روان مستو تعرفها بيروت جيداً، شوارع بيروت وقططها الضالة، الشاطئ الذي كانت تشارك في حملات لتنظيفه ومقهى سيرانو الذي أمضت سنتي حياتها الأخيرتين تعمل نادلة فيه. روان الشابة التي كانت تخطط لدخول كلية الإخراج والتمثيل في العام المقبل، رحلت قبل أن تقدم طلب الانتساب.
قبل وقوع التفجير بنحو ساعة ودعت روان أهلها وتوجهت الى مقهى سيرانو في مار مخايل حيث تعمل بدوامٍ جزئي. عند وقوع التفجير سمعت شقيقتها ريما الصوت فظنت أن الحرب اندلعت وأن التفجير وقع في مار مخايل، خلال ست دقائق نهضت تركض إلى هناك. في طريقها التقت زميل شقيقتها ليخبرها أن “روان لن تنجو” وصلت ريما إلى المقهى ليخبرها زميلان آخران أن روان بخير لكن أغمي عليها من هول الصدمة. توجهت إلى مستشفى الروم، لكنها لم تجدها. تروي ريما لـ”درج”: “توجهتُ إلى مستشفى جعيتاوي كان الطاقم الطبي يحاول إنعاش إحداهن كانت تشبه أختي كثيراً ظننتها هي اقتربت أكثر فلاحظت أن لوغو سترتها ليس سيرانو. خرجنا وأكملنا البحث في مستشفيات أخرى. في اليوم التالي عند السابعة صباحاً وردنا اتصال من مستشفى رزق، ذهبت مع خطيبي إلى هناك، اقترب هو من براد الموتى شعرت أن قلبي قفز إلى هناك، شعرت بحرارة جسدها فاقتربت انا ايضاً وكانت هي، حبيبتي روان”.
أن تكون أجنبياً في لبنان، معاناة ستحملها إلى ما بعد الموت. روان التي ولدت في بيروت منعت من ان تدفن فيها، والقبور المتوفرة للأجانب بعيدة وموقتة أي يسمح أن تدفن فيها لسنتين كحد أقصى، وبعدها تنقل إلى قبر آخر.
عرف صديق روان بالخبر ورفض كما أمها التي تريد لفلذة كبدها أن تنام بسلام قريبة منها. ولكن أمنية العائلة كانت باهظة الثمن، فكي تدفن روان في بيروت كان على عائلتها أن تدفع 11 ألف دولار. بعد جهدٍ طويل تم تأمين المبلغ من فاعل خير. كما عانت العائلة من المماطلة للحصول على شهادة الوفاة التي ثمنها ايضاً يفوق قدرة العائلة -التي فقدت منزلها الواقع بين سن الفيل والنبعة إثر التفجير- على تأمينه.
“وين بابا؟ زعلان مني شي؟”
تسأل قمر ابنة الأربع سنوات باستمرار عن والدها الذي انقطع للمرة الأولى عن مهاتفتها، ويتحضر شقيقها محمد ليروي لها كيف تصعد الملائكة إلى السماء وكيف أصبح والدها نجمة في بيروت، حتى ذلك اليوم تمضي قمر معظم وقتها في بيت الجيران في مدينة حماة السورية.
قبل 35 عاماً حمل عزام يحيى حموة أمتعته وتوجه من سوريا إلى بيروت حيث عمل في قسم الميكانيك في المرفأ، الذي لقي حتفه داخل أحد مستودعاته. قبل وقوع التفجير دعاه صديقه إلى العشاء فرفض عزام أن يرافقه وفضل أن يستلقي قليلاً ليرتاح، ثم وقع الانفجار.
مرت حروب ونكبات كثيرة على ابن الخامسة والخمسين سنة، داخل المرفأ الذي لم يتوقف عن العمل فيه حتى في حرب تموز، وعاش قلق الفراق مع عائلته التي بقيت في سوريا أثناء حربها. ولم تتوقف الأزمات عن ملاحقة عزام الذي يصفه أحد زملائه بـ”فقير الفقراء”، فجاءت الأزمة الاقتصادية في لبنان لتطيح بلقمة عيشه، إذ خفضت الشركة التابعة لرجل الأعمال فادي أبي خليل راتبه ليصل إلى 600 ألف ليرة، مقابل ساعات عمل غير محددة ولم يكن لدى معيل العائلة المؤلفة من 8 أفراد خيار سوى الرضوخ والموافقة.
“شهادة وفاة أبي أغلى من الأجر الذي كان يتقاضاه ليعيلنا”، يقول محمد الابن البكر للراحل عزام حموة لدرج. يواصل محمد (23 سنة) أنه طلب المساعدة ليحصل على شهادة وفاة لوالده الذي نقل إلى سوريا بسيارة صديقه، بعدما رفض الهيئات والجمعيات الصحية في لبنان طلب توصيله عبر سيارة إسعاف إلى المصنع على الأقل. لا شهادة وفاة حتى الآن فالمستشفى طلب 300 دولار والعائلة المنكوبة لا تملك اليوم ثمن رغيفها حتى. عزام الذي عمل لدى شركة فادي أبي خليل لم يتلقَّ اي تعويض أو حتى مساعدة مادية من الأخير، الذي حتى لم يعرض على العائلة أن يدفع ثمن شهادة الوفاة.
“رحلة عودة جثمان الوالد لم تكن بتلك السهولة أيضاً، ناشدنا كثراً للحصول على ورقة تسمح لنا بإحضاره من لبنان، جمع أصدقاء والدي 900 ألف ليرة لدفع ثمن سيارة التاكسي التي نقلته إلينا والحقنة التي تحفظ جسده، جسده الذي نحمد الله أنه كان كاملاً. كان أبي صالحاً ومات مظلوماً”.
لا ورود ولا زعفران على ضريح عزام حتى اليوم، فقط تراب. عائلة عزام تنتظر الحصول على شهادة الوفاة ليُسمح لها بوضع “شاهد القبر” وحفر اسمه .”وضعنا صار تحت الصفر، خسرنا والداً سنداً ومعيلاً، أنا لا أملك عملاً وانا الابن الوحيد بين خمس فتيات، ألقيت على عاتقي مسؤولية لا أدري كيف أتعامل معها، كيف نعيش بعد اليوم؟ لا نعلم كيف سنؤمن رغيف اليوم ولا الغد”. يضيف محمد “لنا في بيروت عمر والدي ولحظاته الأخيرة، لنا في بيروت دماء والدي ونفديها بأرواحنا، سلاماً منا لأرواح من رحلوا إلى جانب والدي”. رحل عزام ورحل عشرات العمال الأجانب فهل من يعوض على عائلاتهم أو يذكرهم حتى؟
في مرفأ بيروت لا صوت يعلو صوت الرحيل والفقدان، يقف أهالي المفقودين منتظرين بريق أمل، أحدهم يعرض على عنصر في الدفاع المدني أن يعطيه رفشاً ويساعده بإزالة الركام، سيدة أخرى تصرخ لأخيها منتظرة أن يجيبها من حيث هو، وهناك أيضاً من يعود الى منزله فاقداً أمل اللقاء بالأحبة. انتشرت صور لمفقودين كثر، لكن بدت شبه غائبة صور المفقودين من العمال السوريين الذين بلغ عددهم ثلث ضحايا جريمة بيروت. حتى الآن لا حصيلة مؤكدة لعدد المفقودين منهم أو الضحايا، والسفارة السورية أعلنت منذ أيام أن 43 شخصاً من مواطنيها هم في عداد ضحايا الانفجار وأكدت أن الحصيلة غير نهائية.
وشم المرساة المفقود في مرفأ بيروت
“على يده اليمنى وشم مرساة بحر وجهه جميل أسمر، لا أظن أنه إذا وصفنا ما كان يرتديه سيفيد، كما وصلنا مصطفى كان قرب الحريق”، يقول بسام زوج أخت المفقود مصطفى عيروت.
يعمل عيروت (28 سنة) في باخرة ابو مرعي منذ 8 أشهر، هو بحار منذ نعومة أظفاره، من بانياس في محافظة طرطوس السورية، يعمل في قسم صيانة البواخر، لا بقعة ثابتة لعمل الشاب السوري فهو يتنقل مع باخرة ابو مرعي وعمالها الرحّالة من بلد إلى آخر، وعمله هذا كان سبب غيابه عن عائلته في سوريا لمدة عام. مصطفى أب لطفل لا يتجاوز عمره السنة ونصف السنة، وفي لقائهما الأخير كان عمر طفله 6 أشهر.
قبل ساعتين اتصل مصطفى بشقيقته تحدثا وضحكا كثيراً ووعدها أنه سيلتقي بها في اليوم التالي. على الرصيف الذي لا يسمح لغيره من عمال الباخرة أن يقف عليه، لأنه وحده من يملك إقامة لبنانية، على الرصيف ذاته شوهد مصطفى أثناء اندلاع الحريق، نجا جميع عمال الباخرة الذين لا يسمح لهم بالخروج منها وفُقد مصطفى “وكأنه دفع ثمن حريته تلك”.
مصطفى أب لطفل لا يتجاوز عمره السنة ونصف السنة، وفي لقائهما الأخير كان عمر طفله 6 أشهر
وحده بسام (زوجأخته) يواصل عملية البحث، يتنقل من مستشفى إلى أخرى “في اليومين الأخيرين كل ما حصلت عليه فرق الإنقاذ عبارة عن أشلاء، وحدي فقدت الأمل، عائلته ليست جاهزة لتقبل خبر فقدانه، هم يظنون أنه مصاب في مكان ما، أقنعت والده وهو في طريقه إلى لبنان لإجراء فحص الحمض النووي ومع ذلك جميعهم يعيشون في الأمل، وحدي أرى صور الأشلاء يومياً، وحدي فقدت الأمل”.
لا تلقي عائلة مصطفى اللوم على أحد في بطء عملية البحث “لا نملك سوى الدعاء والانتظار”.
نقلا عن وكالة درج