بنتُ الواقع هي الحياة، مهما حاولنا أن نُسيّرها وفق أفكارنا ونظرياتنا المسبقة، فإنها تستجيب لظروفه أكثر مما تغازل أحلامنا، وتتماهى مع معطياته أضعافَ ما تجاري طموحاتنا، وتسير على وتيرته هو لا على سرعتنا نحن. والحديث هنا عن الحياة العامّة؛ الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة لشعبٍ ما، وليس عن الحياة الخاصّة لكلّ واحدٍ منّا والتي يمكن لها أن تكون طوع إرادتنا.
فمهما نظّر الكتّاب والمفكّرون عن حاجةٍ شعبٍ ما للثورة والحريّة، فإنّه لا يُتوقع أن يَقرأ الناس كتُبَه اليوم لينزلوا إلى الشوارع في الغدّ؛ قد تساهم كتُبَه في زيادة الوعيّ، وفي إلهام بعض النّاس، أو في تنظيم بعضهم الآخر في صفوفِ تشكيلٍ معارض، لكنه لن يقدر على أن يُفجّر الشارع بملايين من الجماهير الهادرة والقادرة وحدها على صناعة كلّ شيء. ثم إنها حين تنفجر يكون ذلك بالكيفيّة الخاصّة بها، دون أن تسير على النحوّ الذي نُظّر فيه بالكتب ولن تستجيب لما سبق وأن تخيّله أحدهم، بل ستمضي في طريقها وهي تتفاعل مع عوامل أكثر من أن تحصى، لتُشكّل في نهاية المطاف مسارها ومآلها.
وهذا ما ينساه من انسلخ عن ثورات الربيع العربيّ مُبكّرًا بحجّة أنّه لا يؤيد ثورةً تخرج من المساجد، أو أنّه مع “النضال السلمي للديمقراطيّة” وليس مع اقتتالٍ مسلّح تراق فيه الدماء.
ينسى هؤلاء “المثقفون” بأنّ هذه القيم عينها لم تلد عند الأوروبيين نتيجة نقاشاتٍ فكريّة هادئة لمثقفيهم أو مجرّد تعبيرّ عن رغبة بعض الأفراد أو التيارات الفكريّة والسياسيّة، بقدر ما كانت بنتَ الواقع؛ إذ جاءت كحلٍ عمليّ فرضتُه ظروف الحروب الدينيّة التي شقّت عموم القارة الأوروبيّة على امتداد مئةٍ وثلاثين عامًا في القرنين السادس والسابع عشر، وراح ضحيتها ثُلث سكان أوروبا آنذاك. الواقع هو ما دفع بالأوروبيين إلى البحث عن الخروج من هذا النفق المظلم، فأرسوا آليات تفصل الكنسية عن التدخل في شؤون الدولة، وتضمن للمواطنين اختيار حكّامهم بأنفسهم، وقعّدوا لفصل السلطات عن بعضها للحدّ من تشكّل الديكتاتوريات من جديد، ونظّموا السلطة الرابعة رقيبة على كلّ ذلك، لتنطلق بعد إذ حركةٌ صناعيّة ونهضة فكريّة أسّست للنموذج الأوروبي الذي نراه اليوم.
إن من يقارب حياة اليوم بفِكر الأمس يحكم على مشروعه بالفشل، لأن الواقع يختلف في كلّ حين، فلكلّ وقتٍ مشاكل وتحديات مختلفة، وحلولٌ جديدة تتناسب مع السقف المعرفيّ والتقنيّ الآخذ بالتوسّع، كما لكلّ مكان وبلد ظروفه ومعطياته، وألوياته وحاجياته المختلفة، وعدم مراعاة كلّ هذه العوامل هي ما تجعلنا نتحنّط في لحظة ما.
من هنا يمكن النظر إلى التيارات الدينيّة والتيارات الليبراليّة بعين واحدٍ، فكلا التيارين يملكان مشروعًا “مُسبقًا” وضعه الآخرون، الدينيّون لديهم مشروعًا وضعه الأجداد منذ ألف عام يريدون تطبيقه على مجتمع اليوم، والليبراليّون لديهم مشروعًا وضعه الآباء الذين يقطنون في بيئة أخرى، وليست المشكلة في قراءة مشاريع الآخرين قديمها وحديثها والاستفادة منها، إنما المشكلة في عقلية “النسخ واللصق” التي تريد “تنزيل” مشروعٍ مسبق على الأرض، دون النظر إلى واقع هذه الأرض؛ حاجياته، مشاكله، ظروفه، أولوياته الخ
الدينيّون يقولون بأنه لا مكان للنقاش، حيث يُكسِبون آرائهم قدسيّة الدين، ويتهمون من يناقشهم بالضلال. بينما يقول الليبراليون بأن آرائهم تكتسب قدسيّة العلم، الذي لا ينطق سوى عن الصواب، ويتهمون من يخالفهم بالرجعيّة.
يقول مالك بن نبي في كتابه «شروط النهضة»: “إن الحضارة لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها. لأن الحضارة إبداع , وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية، فبعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون هبة تهبها السماء” معللًا بأن أهميّة الفكرة لا تنبع من ذاتها، بل ما تعطيه من النتائج العمليّة في الواقع بعد مواجهتها لمشاكل الحياة وإيجادها للحلول العملية الممكنة لها، وهذا جوهر ما يطلق عليه اسم “فاعلية الأفكار”.
إن العلاقة بين الفِكر والواقع هي علاقة جدليّة، فكل منهما يؤثّر بالآخر ويتأثر به، وهذا الجوهر التفاعليّ المستمرّ هو ما تحتاجه التيارات السياسيّة بمختلف توجهاتها، إذ علينا أن ننفض عن أنفسنا غبار الكسل الذهني، ونقبل تحديّ قراءة الواقع وفهم معطياته، وإلا فإننا ومشاريعنا مهدّدون بالإنقراض.