على مدار السنوات الأربع الفائتة، عايشنا عدة مئويات لأحداث تاريخية فاصلة ومهمة شهدتها المنطقة، وأخصّ بالذكر مئوية الثورة العربية ضدّ العثمانيين 1916، ومئوية نهاية الحرب العالمية الأولى، وتشكيل أول حكومة عربية في سوريا 1918، كما يمكن أن نشير أيضاً لمئوية معركة ميسلون بين الفرنسيين وبضعة آلاف من الجنود السوريين والبدو، التي انتهت بمقتل وزير الدفاع السوري يوسف العظمة، بينما أجبر الملك فيصل على اللجوء جنوباً إلى فلسطين، الخاضعة آنذاك للسيطرة البريطانية.
يومها، وبعد انتهاء المعركة، توجّه القائد الفرنسي هنري غورو مباشرةً إلى وسط المدينة القديمة، حيث يرقد قبر أشهر قائد عسكري في العالم المسلم، كان الضريح الصغير شبه المخفي مهملاً في السابق، لدرجة أنّ القيصر وليم الثاني عندما زار دمشق قبلها بعقدين تقريباً، أثّر فيه مشهد الإهمال هذا، فأمر بتجديد الضريح على نفقته الخاصة، وعندما وصل غورو، الذي كان بذراع واحدة بعد أن فقد ذراعه الأخرى، كما تروي بعض الأساطير في معركة غاليبولي، لم يتمالك نفسه فهتف «ها قد عدنا يا صلاح الدين».
ولعل المفيد في الاحتفاء بهذه اليوميات، أنها أتاحت لنا على الصعيد العربي الاطلاع على عدد من المنشورات والترجمات الجديدة، مثل أعمال المؤرخ البريطاني جيمس بار الصادرة عن دار الساقي، الذي قدّم فيها قراءةً أخرى لدور الضابط البريطاني لورانس، وعلاقته بالعرب، كما نجح في تفكيك أسطورة سايكس بيكو، ورافق دراويش فيصل (مثلما كان يصفهم لورنس) لدمشق ولاحقاً هرّبوه، كما عرفت هذه الفترة نشر مذكرات عدد من الضباط، مثل مذكرات الضابط البيروتي عبد الله دبوس، خلال الحرب العالمية الأولى، إضافةً إلى ذلك، شهدت هذه الفترة عقد عدد من الندوات والمؤتمرات، وربما أهمها عقد المركز العربي للأبحاث في بيروت، مؤتمراً حول الحكومة العربية في دمشق، التي، للأسف، لم تصدر أوراقها في كتاب إلى يومنا هذا، رغم مرور قرابة سنتين على عقدها.
لكن على الرغم من هذا الاهتمام، يمكن القول إنه بقي متواضعاً مقارنةً بالمراجعات والكتب العديدة التي تصدر بالإنكليزية مثلاً، حول تلك السنوات الأربع، خاصةً أنّ هذه الكتب أخذت تكشف عن أحداث وتفاصيل يومية غنية، وصلت لحدّ تعريفنا بأطباق الطعام مثلاً، التي كان يتناولها السياسيون وهم يتباحثون في مستقبل المنطقة، أو الحفلات التي يحضرونها ليلاً بعيد انتهائهم من النقاشات المطولّة.
وبالعودة لحدث ميسلون، الحدث الذي تمر مئويته هذه الأيام، في الوقت الذي تعيش فيه سوريا ظروفاً لم يتوقعها أشدّ المتشائمين، فربما من شيم التاريخ أحياناً، أنه يكرّر بعض صوره؛ ففي هذه الأيام وقبل مئة سنة كانت القوات الفرنسية تدخل دمشق، بينما نعيش اليوم على وقع غزو واحتلال عدد من الدول الإقليمية والدولية لمناطق هنا وهناك من سوريا، مع ذلك، لا يبدو أنّ هذه الصورة تثير حساسيةً لدى النخب والمراكز البحثية السورية، ربما يكون ذلك لفداحة ما نعيشه، وأيضاً لعدم إدراك بعض نخبنا لضرورة فهم ما حدث، ليس فقط في هذه المعركة، بل كذلك على صعيد تجربة فيصل السياسية، بعد دخوله دمشق، وضياع كل الأحلام والوعود، جراء الحسابات والصدف الدولية من ناحية، وعدم إلمام النخب السياسية والاجتماعية السورية آنذاك بلعبة السياسة والتفاوض، وإصرارها بدلاً من ذلك على كيل الاتهامات بالعمالة لفيصل بعد عودته من مؤتمر السلام، وهذا ما قد يذكرنا بتفاصيل مشابهة لها حدثت بعد مئة عام في حياة السوريين، كالتي يرويها لنا برهان غليون في مذكراته «عطب الذات» الذي يبوح لنا أنه في الوقت الذي كانت فيه قوات النظام السوري تقصف بلدات في الغوطة، كانت قوى المعارضة السورية تتعارك بالأيدي في مؤتمر تونس لنصرة الشعب السوري.
ومن المشاهد التي نعثر عليها أيضاً قبل ميسلون، ما يتعلّق بحياة فيصل ورؤيته وتصرفاته حول السياسة. إذ يخصّص الأرناؤوط فصلاً لدراسة مذكراته التي نشرت بعنوان «أوراق الملك فيصل الأول ملك العراق» وهي مذكرات كان قد دوّنها بعد خروجه من سوريا، في إيطاليا من بداية يناير إلى بداية مارس/آذار 1921.
وبالعودة لحدث الحكومة العربية، ولاحقاً انهيارها مع معركة ميسلون، فإنّ من الاستثناءات الأكاديمية العربية القليلة التي بقيت تولي اهتماماً بقراءة أحداث هذه الفترة، سواء على صعيد التأليف، أو حتى متابعة ما ينشر في الجامعات الغربية حول هذه الأيام، يمكن الإشارة إلى جهود المؤرخ الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط، الذي بقي على مدار أكثر من عقدين يعيد النظر في هذه الفترة، عبر عدد من الأبحاث والمقالات، كما ذكرنا، أو عبر الكشف عن وثائق جديدة «الكتاب الأسود/خطة وودرو ويلسون السرية للسلام» التي عثر مؤخراً على نسختها الوحيدة الباقية في جامعة جون هوبكنز الأمريكية، كما أنه استعان في السنوات الأخيرة بعدد من المذكرات الجديدة حول تلك الفترة (مذكرات الأمير زيد، وأوراق الملك فيصل في العراق، أو مذكرات مرافقه الخاص تحسين قدري وغيرها). وقد استطاع الأرناؤوط جمع هذه الأبحاث ونشرها في كتاب، صدر قبل يومين بالتزامن مع معركة ميسلون بعنوان «من الحكومة إلى الدولة/تجربة الحكومة العربية في دمشق 1918ـ 1920» عن دار الآن ناشرون في الأردن.
أول ما يلفت النظر، ويثنى عليه، إهداء الأرناؤوط مؤلفه لروح المؤرخة الراحلة خيرية قاسمية، التي كانت قد أعدّت في عام 1971 أطروحتها للماجستير في جامعة القاهرة بعنوان «الحكومة العربية في دمشق» قبل أن تتحول لمرجع أساسي لفترة طويلة. وبالانتقال إلى الأيام والمشهد الذي سبق معركة ميسلون، يذكر الأرناووط أنّ السيطرة في بداية عهد فيصل كانت للنخبة القومية العربية، المدنية والعسكرية، التي جاءت مع الأمير فيصل إلى دمشق بطموح كبير لتأسيس دولة عربية مستقلة. وقد نشطت هذه النخبة مع واجهاتها الحزبية والثقافية (حزب الاستقلال والنادي العربي) في تأسيس البنية التحتية للدولة المنشودة، مدارس وجامعة، ومجمعا علميا، وجيشا، وقوانين، وفي تحشيد الشارع بتسيير مظاهرات، واحتفالات في الأعياد القومية الجديدة، وهي طقوسٌ كان قد درسها جيمس ل. غلفنت في كتابه «الولاءات المنقسمة: القومية والسياسة الجماهيرية في سوريا مع انهيار الإمبراطورية» إذ تميزت برفع شعار «الدين لله والوطن للجميع» للإيحاء لدول الحلفاء والعالم بأنّ الشعب السوري منسجمٌ ومتحدٌ وراء قيادته، لكن مع خريف 1919، كان المشهد يتغيّر، كما يذكر غلفنت، ويؤيده الأرناؤوط، فقد ترافقت هذه الفترة مع عدد من التطورات، أهمها إجراء اتفاق بريطاني فرنسي في 15 سبتمبر/أيلول 1919 لتعديل سايكس بيكو، وضمّ ولاية الموصل إلى العراق، وسحب القوات البريطانية من سوريا، لكي تحلّ محلها القوات الفرنسية، كما تعمّدت بريطانيا تأخير دفعة المعونة الشهرية للحكومة العربية، والتي كانت تقدّر آنذاك بـ75 ألف جنيه شهري كأداة للضغط عليها. وقد ولّدت هذه الأحداث تحولات عديدة، تمثّل أهمها في تخلخل اقتصادي في الشمال، مع انفصال حلب عن مجالها الاقتصادي الحيوي في الموصل والأناضول، كما أنّ مدينة دمشق عاشت أزمةً أخرى، في ظلّ استمرار موجة اللاجئين من الأناضول، ضباط مسرّحين وأرمن وغيرهم، بالإضافة إلى عجز الحكومة عن دفع رواتب الموظفين والجنود، مع وقف المعونة البريطانية. وهنا يذكر الأرناؤوط أنّ هذه الظروف القاسية، دفعت بعدد من الجنود قبيل معركة ميسلون بأشهر إلى بيع ملابسهم العسكرية في سوق الخجا والحميدية لشراء القوت لأسرهم.
وقد أدّت هذه الظروف كذلك إلى السماح بظهور قوى جديدة في الشارع، بعد أن كانت نخب فيصل هي المسيطرة، إذ برزت في هذه الأثناء قوى قومية أخرى (اللجنة الوطنية) بحيث أخذت تعبّر أكثر عن الأحياء الدمشقية العريقة (حي الشاغور والميدان والقنوات وغيرها) التي أصبحت حاضنتها، وكان لها أيديولوجيتها أو نظرتها المختلفة تماماً عن العالم، وهنا لم يعد الشارع وحده المجال الذي تتنافس فيه القوميتان (القومية الفيصلية والقومية الشعبية) بل غدت المقاهي والمسرحيات مجالاً مهماً لحشد الناس أيضاً، نظراً لأنّ غالبية السوريين لم يكونوا يقرأون الصحف، ومع عودة فيصل الثانية من باريس في يناير/كانون الثاني 1920، بدا أنّ الحماسة الشعبية لاستقباله قد فترت مقارنةً بعودته الأولى من فرنسا 1919، بل خرجت مظاهرات تمسّه نفسه «الموت لمن خان فلسطين» في إشارة لتوقيعه اتفاق مع رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو حول قبول الانتداب الفرنسي بشروط بدت لاحقاً أفضل من التي فرضتها فرنسا بعد دخولها دمشق، ومع هذا الانعطاف، تزايد تأثير القومية الشعبية التي كانت تشدّد على استقلال سوريا الطبيعية في المؤتمر السوري العام، ولذلك حاول فيصل في البداية عرقلة الدعوة للمؤتمر السوري العام للانعقاد بعد عودته، لكنه اضطر في ظلّ تصاعد الضغوط إلى عقده، وأثناء الجلسة طلب من النواب اختيار نظام حكم مناسب لسوريا في المستقبل، بدون الإشارة إلى إعلان الاستقلال، تاركاً بذلك الباب مفتوحاً لحلّ وسط مع فرنسا وبريطانيا، لكنّ المفاجأة جاءت مع الشيخ كامل القصاب الذي رفع في خطابه سقف المطالب إلى الاستقلال الكامل لأرجاء سوريا الطبيعية، بما في ذلك فلسطين، وهو الخطاب الذي بادرت اللجنة الوطنية إلى توزيعه في الأحياء، عشية قرار المؤتمر بإعلان استقلال سوريا الطبيعية باعتباره يعبّر عن الأمة. ومع رفع سقف التوقعات، بدون الإلمام بموازين القوى على الأرض، كانت النخبة، كما يرى الأرناؤوط، قد خسرت المعركة في الميدان في دمشق (في إشارة لموقف القومية الشعبية) قبل أن تخسرها في ميسلون خلال ست ساعات، إذ لم تدرك يومها هذه النخب الشعبية، أنّ ليس بإمكانها تحصيل أكثر ما استطاع فيصل تحصيله، كما أنها بمطالبها الشعبية دفعت فيصل للقبول بموافقها الصلبة، وبذلك كان يفقد رهانه على التفاوض، وبذلك كانت ميسلون بمثابة تحصيل حاصل لما جرى قبلها بأشهر.
في مقابل موقف وفهم فيصل الناضج من المفاوضات والسياسة بوصفها فنّ الأخذ وتقديم المقابل، بدت النخب السياسية والقومية الشعبية آنذاك في أغلبها غير مكترثة أو مدركة لهذا المعنى، ولذلك فضّلت الوفاء لشعاراتها، بدل الانتباه لمعنى السياسة.
ما أشبه اليوم بالأمس
ومن المشاهد التي نعثر عليها أيضاً قبل ميسلون، ما يتعلّق بحياة فيصل ورؤيته وتصرفاته حول السياسة. إذ يخصّص الأرناؤوط فصلاً لدراسة مذكراته التي نشرت بعنوان «أوراق الملك فيصل الأول ملك العراق» وهي مذكرات كان قد دوّنها بعد خروجه من سوريا، في إيطاليا من بداية يناير إلى بداية مارس/آذار 1921. وفي مقدمة هذه المذكرات، يخلّص المؤرخ الأردني سليمان الموسى، وهو الذي اشتغلّ عدة عقود على تاريخ الثورة العربية والحكومة العربية في دمشق ونشر مصادر مجهولة (يوميات فيصل وخواطره، ومذكرات الأمير زيد) إلى اعتبار فيصل واحداً من أهم عشرة شخصيات مشرقية في القرن العشرين إلى جانب والده الحسين، وعبد العزيز آل سعود وابنه فيصل ونوري السعيد وجمال عبد الناصر وأنور السادات وغيرهم.
أما السبب في ذلك فهو سبق الأمير فيصل في التمرس في السياسة، بعد أن أصبح ممثلاً لجده في البرلمان العثماني 1909/1912 وممثلاً للعرب في مؤتمر الصلح في باريس 1919، وهناك خاض غمار الدبلوماسية، معتمداً على القاعدتين المهمتين «السياسة فن الممكن» و«خذ وطالب». في هذا السياق، يقارن الموسى بين فيصل بن الحسين وجمال عبد الناصر، إذ يرى أنّ الأول «لم يدفع العرب للسير في دروب المغامرات والمزايدات، كما فعل عبد الناصر، بل كان يعرف حدّه فيقف عنده، ليس عن تخاذل، بل واقعية وبعد نظر وعقلانية». ويوافق الأرناؤوط على هذا الاستنتاج، إذ يذكر أنّ فيصل أدرك بواقعيته أنّ المواجهة العسكرية مع فرنسا لا تجدي مع وجود جيش سوري ناشئ، وفي وضع مالي عصيب عجزت فيه الحكومة عن دفع رواتبه، ولذلك حاول بالدبلوماسية أنّ يجنّب سوريا المستقلة ما تريده فرنسا من إذعان لها، ومما يبدو من مذكرات مرافقه الخاص تحسين قدري، أنّ فيصل لم ير حلاً لإنقاذ سوريا سوى الدبلوماسية في ظلّ توازنات تلك الفترة، ولذلك يذكر قدري أنّ فيصل كثيراً ما كان يردّد عبارة «علينا أنّ نستفيد من كلّ فرصة مناسبة، وانتظار حرب مقبلة تفيد العرب أكثر، بعد أن تنبّهوا إلى أهمية العلاقات الدولية مع مؤتمر الصلح في باريس».
لكن في مقابل موقف وفهم فيصل الناضج من المفاوضات والسياسة بوصفها فنّ الأخذ وتقديم المقابل، بدت النخب السياسية والقومية الشعبية آنذاك في أغلبها غير مكترثة أو مدركة لهذا المعنى، ولذلك فضّلت الوفاء لشعاراتها، بدل الانتباه لمعنى السياسة، ومن المفارقات هنا، أنّ هذا السلوك بقي يحكم الكثير من النخب السورية ليومنا هذا، ففي الوقت مثلاً الذي كان فيه فيصل في فرنسا «يأخذ ويطالب» مع القوى الدولية والأمريكيين (إذ قبل مثلاً بفكرة انتدابهم بدلاً من فرنسا) بقيت النخب السورية، كما يذكر لنا غليون في مذكراته سالفة الذكر، بعد مئة عام لا تبالي بوصايا فيصل لها، وبدلاً من ذلك كانت تطالب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بالضغط على النظام لوقف قصف المدن، والقبول بالتنحي السلمي، ومغادرة البلاد، وتسليم الضباط للمحاكمة، والقصور الجمهورية، وحساباته البنكية، فما كان منه أمام هذه المطالب الكثيرة، إلا أن بادرهم بالقول «وماذا سنقدّم للأسد في المقابل» يومها فهمت المعارضة السورية هذه الإجابة على أنها محاولة للتهرب من الإدارة الأمريكية، في حين ما أراد كيري قوله لهم إنّ السياسة لا تقوم على قضايا عادلة وحسب، بل تتطلّب تفاوضاً وتقديم حلول قد لا تكون مثالية، لكنها تبقى أكثر واقعية، أما أن تنتظروا أمريكا لإسقاط النظام، فهو حلمٌ بعيد المنال، مع ذلك لم تنتبه هذه النخبة لهذه القاعدة، أو لعبر فيصل، وما حدث قبل أشهر من ميسلون، ليبقى إدراكهم للسياسة قائماً على فكرة المؤامرة، أو تحقيق مكاسب شخصية، أو انتظار دولة ما لتسلمهم القصور الرئاسية والسيارات الفارهة، بينما لم يعد السوريون في الداخل يجدون شيئاً ليبيعوه.
نقلا عن القدس العربي