قد يبدو استعمال “الربيع العالمي” لما يجري حاليا، مع تفشي فيروس كورونا، استعارة غير ملائمة ربما لاختلاف الربيع العربي عما نسِمه اليوم بأنه عالمي. لكن تواقت انتشار الفيروس، واللجوء إلى الحجر الصحي، عالميا، كإجراء احترازي، مع منتصف شهر آذار/مارس، يعطي للعنوان زمنيته، لكن حدَثية أخرى يمكنها أن تجعله رديفا للربيع العربي، وإن بطريقة ودلالات أخرى.
حين أطلق الربيع العربي على حركات احتجاج الشعب العربي على أنظمته السائدة كان ذلك يدل على بداية تفتح زهرة لتعطي ثمرة جديدة خنقتها فصول الصيف والخريف والشتاء التي طالت وامتدت لعقود عدة. لم يكن الربيع العربي سوى “يقظة” مذعور هالته الكوابيس التي ظل يعاني منها. ولما استيقظ محاولا “تأويل” رؤياه، كان الالتفاف على يقظته بشتى الأساليب إلى حد التقتيل والتهجير، بهدف إعادته إلى نومته بتزميله بالوعود الكاذبة، وتدثيره بممارسة المزيد من التخويف من المستقبل. ويكفي أن نقرأ السرد العربي الذي ظهر على وجه الخصوص منذ بداية الألفية الجديدة ليبدو لنا ذلك بجلاء. لكن الربيع العربي، كما عرف موجة ثانية ضد الطائفية والمحاصصة، والعسكرتارية وغيرها، لا يمكنه إلا يظل متواصلا وممتدا في موجات مستمرة. وها الربيع العالمي جاء ليوقف بعض تجلياته ليدرجه ضمن تداعياته.
فما الذي يجعلنا نسم تفشي الفيروس بالربيع؟ نختزل الجواب في كلمة واحدة: الخوف. إذا كان الربيع العربي جاء لوضع حد للفساد، فإن الربيع العالمي ائتلف ليضع حدا للوباء. إن العلاقة وطيدة بين الفساد والوباء. فكلاهما تمثيل للقضاء على “إنسانية” الإنسان؛ وهما معا من فعل بشري، يختزل ما هو “إنساني” في خدمة مصلحة فئة محدودة من المتحكمين في مصائر السواد الأعظم من الناس بالنظر إليهم على أنهم أشباه إنسان.
إن الخوف في التاريخ البشري، عموما، وفي السرد الإنساني خصوصا، تعبير عن الرغبة في مواجهة ما يحد من تحقيق نعمة العيش، أو في تحدي الموت لفائدة الحياة. ولعل أهم ميزة للخوف تدفع الإنسان إلى مواجهة الموت أملا في حياة أخرى. وما تاريخ الحروب والصراعات، وما ينجم عنه سوى دليل على ذلك.
عانى العربي من الخوف من المستقبل، ومن النظام، ومن التخلف والجهل، والصراعات الهامشية. استمر هذا الخوف عدة عقود. هذا إذا لم نرجعه إلى تاريخ طويل مهد للاستعمار. وفي كل مرة كانت تُعانَق أحلام، ثم سرعان ما تتبخر. جاء الربيع العربي صرخة ضد تاريخ حديث ليقول: نريد أن نعيش مثل شعوب الأرض التي قطعت مع استبداد العصور المظلمة. إن الخوف الذي كان يدفعه للصمت هو نفسه الذي يدفعه لتحدي كلام الآخر الذي كان مفروضا عليه أملا في أن تصير له كلمة مسموعة.
أما الربيع العالمي فتحقق بسبب فيروس انتقل إلى وباء. انتشر الفيروس ليكون صرخة ضد تاريخ حديث لعبت الحضارة الغربية دورا كبيرا في صناعته وابتكاره. وكما توحدت الشعوب العربية في صرخة الربيع العربي ضد الفساد، توحدت البشرية في مواجهة سرعة تفشي الوباء. أليس هذا التوحد في الربيعين تعبيرا عن الخوف من استمرار آليات صناعة الفساد، وتداعيات اصطناع الوباء؟
مرت علاقة الإنسان بوجه عام، تاريخيا، بالخوف من مرحلتين: ما قبل العصر الحديث، وما بعده. مرحلة “الأساطير” وما يدخل في نطاقها، من جهة. ومرحلة “رواية الخيال العلمي”، وما يدور في فلكها من أنواع سردية، من جهة ثانية. في المرحلة الأولى كان الخوف من الطبيعة وأثرها على حياة الإنسان مشفوعا بالرغبة في التواصل مع القوى الغيبية، والتصالح معها، من أجل اتقاء ما يمكن أن تلحقه به من أذى. لكن منذ أن صار الإنسان الغربي، قبيل عصر الأنوار، يعمل من أجل التغلب على الطبيعة بتطوير أدوات استكشاف منتهى الصغر، ومنتهى البعد، بات يدعي أنه “الإنسان الإله” الذي بإمكانه التحكم في الرقاب عن طريق الاستعمار، وفرض تصوراته على غيره، وتوحيد الجميع (العباد والبلاد) تحت سيطرته. أدى هذا التحول منذ الثورة الصناعية إلى الصراع بين البورجوازية والبروليتاريا، والاستعمار والاستقلال، في مرحلة، وإلى بروز “الحرب الباردة” بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، في مرحلة ثانية. خمد الصراع قليلا مع سقوط جدار برلين، ليتوجه إلى الإرهاب، فوحّدت أمريكا العالم تحت لوائها، وهي التي صنعته خلال حربها مع الاتحاد السوفياتي. ثم ما لبث أن ظهرت الصين فارضة وجودها عالميا، فبدأ الصراع يتخذ وجها آخر. وفي هذا النطاق جاء الوباء الذي وحد العالم من جديد: العولمة السردية.
برزت نتيجة تلك الصراعات في حربين عالميتين لم يتولد عنهما غير الهلع والخوف، وملايين القتلى. ومع التطور الذي حصل منذ أواسط القرن العشرين بدأت ملامح حرب عالمية ثالثة تأخذ مداها ليس فقط ضد الإنسان، ولكن ضد البيئة الطبيعية المحيطة أيضا. فكان التغير المناخي والاحتباس الحراري الذي تظهر آثاره السلبية على حياة الإنسان في هذه الأرض.
إذا كانت الأساطير وهي تسعى إلى الرجوع إلى الماضي (قصة الخلق) لتفسير الخوف البشري من الحاضر، نجد رواية الخيال العلمي تستشرف تاريخ المستقبل الممكن والمحتمل انطلاقا مما يتحقق في الحاضر لا يؤدي إلى نهاية العالم (القيامة). وبين البداية والنهاية لا نجد سوى الملاحم والفتن الذي يمارس فيها الإنسان عبثه بالحياة التي كرم بها ابن آدم.
لقد انحرفت الحضارة الغربية عن مسارها الذي اختطته في البداية لكي تحقق للإنسان الحرية والكرامة. فاختزلت في تاريخها الحديث (قرنان من الزمان ونيف) أبشع صور الدمار التي لم تعرفها البشرية في كل تاريخها. لم يوظف العقل، والعلم لخدمة الإنسان، ولكن ليكون طوع الآلة العسكرية والمالية التي تستخدمه لمآربها الخاصة. وما اصطناع الفيروسات، والإنسان الآلي، والتسابق على تطوير الأسلحة النووية، والقضاء على النظام البيئي، والتفكير في غزو الفضاء بحثا عما يسمونه الكائنات الذكية، سوى تعبير عن تحقق وهم “الإنسان السوبرمان”.
بيّن انتشار الفيروس خرافة السوبرمان كما تقدمه رواية الخيال العلمي، وكما تدعيه الحضارة الغربية. ووحد البشرية لتتنازل عن طغيانها وهي تعيش أقصى درجات الهلع، ولتلتفت إلى أنها كانت تخرب وتدمر باسم الإنسان. وبدأت تظهر لغات أخرى دالة على الأسف والهلع والحنان والتضامن الإنساني، كما أبرزت على صعيد الوطن العربي أن التبعية للهيمنة الغربية لن تجعلها أبدا إلا معزولة عن شعوبها وهي تطبق السياسات التي تملى عليها لتظل أسيرة أوامرها. لقد ضحت هذه السياسات بالأرض والوطن والمواطن، وشوهت التعليم وباعته لأشخاص لا يهمهم سوى الاغتناء ونشر الجهل. كما أنها ضحت بالصحة بجعلها في يد من لا يهمه سوى استمرار المرض. وها هي النتيجة لا علماء ولا مفكرون يُلجأ إليهم، ولا أطباء يسهمون في وضع حد للفيروس، ولا معلوماتيون قادرون على التفاعل. خرس المجتمع السياسي، والمدني، وظهرت الدولة لتقول إنها تتحمل مسؤولية انحسار الوباء؟ تبدلت لغة العنجهية والتصلب، وصارت المطالبة بالتضامن والتآزر بين مكونات الدولة والشعب.
هل توحيد الفيروس البشرية بداية جديدة لقراءة أخرى لعلاقة الإنسان بالإنسان، والحاكم بالمحكوم، والإنسان بالطبيعة، تستعيد قلق الإنسان من أجل حياة كريمة للجميع يهيمن فيها الفكر الإنساني على الهوس المالي والاقتصادي؟ أم أنه ربيع عابر ينتهي بانتهاء الوباء؟
نقلا عن القدس العربي