نشر موقع “فورين أفيرز”وفق القدس العربي مقالا عن صناعة المسيرات التركية التي تسهم في تشكيل سياسة الرئيس رجب طيب أردوغان الخارجية. وفي المقال الذي أعده سونير تشاغباتاي، مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن وريتش أوتزين المستشار البارز لدراغون أل أل سي والجيش وعمل في فريق تخطيط السياسات بوزارة الخارجية ما بين 2016 و 2018 قالا فيه إن “سلاح تركيا القاتل” يسهم في تشكيل الحروب من سوريا إلى “أوكرانيا، ففي 14 نيسان/إبريل أدهشت القوات الأوكرانية العالم عندما أغرقت بارجة “موسكوفا” التي كانت عنوان الفخر للبحرية الروسية في البحر الأسود. وما ركزت عليه الصحافة الدولية هو أن الأوكرانيين نجحوا باستهداف السفينة بصواريخ نيبتون المصنعة محليا وبرغم دفاعات السفينة القوية، وما لم يلاحظه الإعلام الدولي هو الطائرات المسيرة والأجنبية التي ساعدت في هذا الهجوم.
وبحسب المسؤولين الأوكرانيين فقد تم تنسيق الهجوم من خلال طائرتين تركيتين بدون طيار من طراز بيرقدار تي بي2 واللتان استطاعتا تجنب رادارات السفينة وقدمتا معلومات دقيقة للصواريخ التي استهدفتها.
ويقول الكاتبان إن الطائرات المسيرة التركية لم تثبت دقتها في أوكرانيا لأول مرة، فمنذ الأيام الأولى من الغزو، أثبتت الطائرات ذات الكلفة المنخفضة قدرتها على تعطيل الدبابات الروسية ووقف تقدم الجيش الروسي. ولم تكن هذه مصادفة، ففي كانون الثاني/ يناير وعندما حشدت موسكو قواتها على الحدود الأوكرانية، قامت كييف وبهدوء بعملية شراء كبيرة من تركيا وحصلت على 16 طائرة بيرقدار بي تي2 في صفقة وصلت 60 مليون دولار، أي بزيادة 30 مرة عما أنفقته على معدات عسكرية من تركيا بنفس الفترة قبل عام. وانضمت هذه الطائرات إلى 20 طائرة اشترتها أوكرانيا سابقا من تركيا. وكانت بيرقدار مهمة للجهود الحربية الأوكرانية، حيث يعني اسمها حاملة التين، بشكل أدت لتدبيج أغنية وطنية أوكرانية وجدت طريقها إلى منصات التواصل الاجتماعي.
ويعلق الكاتبان أن اهتمام أوكرانيا بالمسيرات لم يلفت إلا الاهتمام القليل لاستراتيجية البلد الذي يقوم بتصنيعها. وتنتجها شركة تركية على صلة مع الرئيس أردوغان، فقد كانت معادلا مهما في الحرب بأوكرانيا. ولعبت في السنوات الماضية دورا مهما في نزاعات مختلفة في القوقاز والشرق الأوسط وإفريقيا. وعبر تسويق الطائرات المسيرة إلى عدد من الدول، ذات الدخل المتوسط، فقد وسعت تركيا من تأثيرها الجيوسياسي، وموضعت نفسها في الوقت ذاته لتشكيل نتائج الصراعات الإقليمية على السلطة.
ولم تكن دبلوماسية الدرون التركية خالية من العيوب والمشاكل، ففي الشرق الأوسط، دفع تدخلها في ليبيا منافسيها مثل اليونان ومصر إلى تشكيل تحالف بهدف الحد من القوة التركية. وفي أوكرانيا تهدد المسيرات بالتأثير على التوازن الحساس مع روسيا التي لا تزال تحتفظ معها بعلاقات. وعبر في السنوات الماضية مشرعون جمهوريون وديمقراطيون في الكونغرس عن مخاوفهم من انتشار المسيرات التركية، وأشاروا لدورها في النزاع بين أذريبجان عام 2020 في منطقة ناغورو- كارباخ. وقال السيناتور الديمقراطي عن نيوجرسي، بوب ميننديز في الخريف الماضي إن “مبيعات المسيرات التركية خطيرة وتهدد الاستقرار وتهدد السلام وحقوق الإنسان”. إلا أن تركيا وبعد سنوات من التصرف الفردي والاعتماد على النفس والذي خلق لها عددا من الأعداء الإقليميين وخربت تحالفاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، بدأت باستخدام بيرقدار وبقية المسيرات كورقة تأثير ورفع مستواها على المسرح الدولي.
ففي الشرق الأوسط، ساعدت المسيرات تركيا على حماية مصالحها وبمصادر دبلوماسية محدودة. وفي أوكرانيا، منح دعم أنقرة العسكري لها أردوغان نفوذا جديدا في الناتو، حيث تعاني حكومته من وضع متقلب في الداخل وتعاني علاقاته مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ عدة سنوات من أزمة. ولو استطاعت تركيا إدارة برنامج المسيرات بنجاح والبناء عليه، فإنها ستمنح نفسها نوعا مهما من التأثير وتعيد في الطريق تشكيل الحروب بالطائرات بدون طيار.
ويتحدث الكاتبان عن ولادة صناعة المسيرات التركية التي بدأت في التسعينات من خلال مزودين أجانب، وفي وقت كانت فيه الولايات المتحدة الصانعة المهيمنة في هذا المجال. وحاولت تركيا الحصول على هذه التكنولوجيا لمواجهة حزب العمال الكردستاني، المصنف كجماعة إرهابية في كل من تركيا والولايات المتحدة. ثم حاولت الحصول عليها من إسرائيل عام 2005، ولكن بنتائج مخيبة. وفي السنوات الأخيرة رفضت طلبات تركيا لشراء مسيرات متقدمة مثل أم كيو-9 ريبر، ولهذا قررت تصنيع طائراتها. وفي 2012 طورت شركة تابعة للحكومة نموذجا للدرون وفي 2016 كانت قادرة على القيام بعمليات استطلاع فعالة. وخلال تلك الفترة حصل اختراق آخر من سلجوق بيرقدار، المهندس الذي تدرب في أم أي تي، أمريكا وصهر الرئيس أردوغان وقام بتصمييم بيرقدار تي بي2. وفي عام 2012 تم التحول لصناعة تي بي2 بالجملة وبعد 3 أعوام استطاعت القيام بغارات دقيقة بشكل جعلها أداة مهمة في الترسانة التركية. ومثل المسيرات الأمريكية أم كيو-1 ريبر و أم كيو- 9 ريبر فبي تي2 هي مسيرة تحلق على مستوى متوسط وذات قدرة على التحمل. ومقارنة مع نظيرتها التركية، فالطائرات الأمريكية أقوى بدون شك، فلديها مثلا مدى يتفوق على التركية 10 مرات وسرعة بضعفين وقادرة على حمل أسلحة ضعفي التركية. ولكن كلفتها أعلى بثلاث مرات مقارنة مع التركية. وفي بعض الأحيان تكلف الذخيرة وحدها أكثر من صناعة تي بي-2 وحدها، والتي تصل كلفتها مع سلاحها إلى ما بين مليون إلى مليوني دولار.
وبدأت تركيا بداية عام 2015 باستخدام المسيرات في حربها الطويلة ضد حزب العمال الكردستاني، حيث استطاعت طرده من أراضيها وقتل عدد من قادته ولاحقته إلى الأراضي العراقية. ثم بدأت باستخدامها ضد الأكراد في سوريا والمعروفة بقوات حماية الشعب المرتبطة بالعمال الكردستاني، وهي استراتيجية ساعدت تركيا للسيطرة على حدودها الجنوبية- الشرقية والجنوبية وتوسيع مداها إلى شمال سوريا والعراق بدون المخاطرة بإرسال قوات برية. ولأول مرة منذ عقود استطاعت تركيا الحصول على مستوى الحسم في حربها الطويلة ضد حزب العمال الكردستاني.
ويقول الكاتبان إن المميزات التي جعلت بيرقدار سلاحا لا يستغنى لأولويات الأمن التركية ثبت نفعها للقوى الصغيرة والمتوسطة. فمن خلال استثمار متواضع تمكنت دول من الحصول على تكنولوجيا عسكرية فتاكة بإمكانها تغيير دينامية النزاعات وردع المتمردين والقوى الأخرى. وفي عام 2017 بدأت تركيا بتصدير مسيراتها وبغضون 5 أعوام صدرت تي بي2 إلى عدد من الدول منها حلفاء في أوروبا، مثل ألبانيا وبولندا وأوكرانيا ودول وسط وجنوب آسيا مثل قيرغيستان وباكستان وتركمنستان. بالإضافة لدول إفريقية مثل إثيوبيا وليبيا والمغرب وتونس والصومال. إلى جانب دول في الخليج مثل قطر والقوقاز مثل أذربيجان. ومع أن الصفقات كانت مدفوعة بمصالح تجارية وجيوسياسية إلا أنها تمت مع دول على علاقة استراتيجية مع أنقرة. وفي أعقاب بيع المسيرات التركية فقد أدت إلى حرف ميزان الحروب مثل ليبيا عام 2020 حيث دعمت تركيا الحكومة في طرابلس ضد أمير الحرب في الشرق خليفة حفتر الذي دعمته روسيا. وبنفس السياق حرفت المسيرات التركية ميزان الحرب بين أذربيجان وأرمينيا. وفي إدلب منحت المعارضة القوة لوقف قوات الحكومة في دمشق التي كانت تهدف لطردهم إلى تركيا. أما في إثيوبيا فقد ساعدت حكومة أديس أبابا لحرف ميزان الحرب ضد جماعات التيغراي. وكما في معظم الحالات فالاهتمام بأثيوبيا لم يكن تجاريا فقط بل وسيلة لتأكيد تأثيرها في القرن الإفريقي ومواجهة مصر التي تتنافس معها إقليميا. ورغم حرف التكنولوجيا العسكرية ميزان الحروب لصالح دول ذات ميزانيات متوسطة إلا أنها خلقت تحديات لها أيضا، فدول مثل إثيوبيا والصومال وتونس حصلت على الطائرات بدون أن تكون لديها الأنظمة التكنولوجية لإدارتها. وربما لن تكون هذه الدول قادرة على تحقيق مكاسب ضد قوى ذات عتاد وتجهيزات أكبر منها وربما ارتكبت أخطاء، كما في الحرب الإثيوبية ضد مقاتلي التيغراي، حيث انتقدت الحكومة في أديس أبابا لأنها تسببت بمقتل مدنيين وحتى استهداف مدرسة بمسيرة تركية، مما عزز المفهوم لدى الأمريكيين أن تركيا تحولت إلى جهة متربحة متهورة من المسيرات.
وهناك مشكلة أخرى أكبر وكانت نتيجة للتدخل في ليبيا حيث أثارت قلق المتنافسين مثل فرنسا والإمارات العربية ومصر. وفي أيار/مايو 2020، بعد ما حرفت تركيا مسار الحرب الأهلية الليبية، شكلت مصر تحالفا مع فرنسا وقبرص واليونان والإمارات العربية المتحدة لمعارضة نشاطات تركيا في البحر المتوسط وباستخدام الجهود الدبلوماسية والسياسية والبحرية. وزادت الولايات المتحدة الدعم العسكري لليونان لمنع روسيا وضد تركيا بمستوى آخر.
إلا أن الحرب الأوكرانية تعتبر الأهم بالنسبة للمسيرات التركية والأكثر خطرا. فقد استخدمت تي بي2 عام 2020 ضد الانفصاليين في منطقة دونباس المدعومة من روسيا. لكن الغزو الروسي لأوكرانيا هي المرة الأولى التي تستخدم فيها مباشرة ضد الجيش الروسي. وسجلت 60 غارة ناجحة ضد دبابات وعربات مصفحة ومدفعية روسية وحتى قطارات الإمدادات. وبالنسبة لعلاقات تركيا مع الغرب فقد أدت مشاركتها لتعزيز يد الأوكرانيين في الحرب ضد روسيا بل ورفعت من موقع أنقرة في داخل الناتو. وبالمقابل فقد أدى استخدام مسيراتها لطرح أسئلة حول جهود الحفاظ على علاقة عمل مع موسكو. وستحاول تركيا عمل جهدها لمنع وقوع أوكرانيا تحت السيطرة الروسية، ذلك أن الغزو غرس في عقلها حسا من الواقعية عندما يتعلق الأمر بروسيا، عدوتها التاريخية. وتعتبر تركيا أوكرانيا ودول البحر الأسود مهمة جدا وحليفة في بناء كتلة ضد العملاق الروسي، شمال البحر الأسود. ولو استطاع بوتين السيطرة على أوكرانيا أو فشل ولام تركيا فسيحاول تقويض مصالح أنقرة، في سوريا مثلا من خلال خلق أزمة لجوء جديدة من إدلب باتجاه تركيا. وأصبحت المشاعر المعادية للاجئين قوية نظرا للوضع الاقتصادي، مما سيضغط على أردوغان بسبب موجات اللجوء. وربما وضع بوتين ضغوطا على تركيا من خلال منع الصادرات الزراعية لروسيا أو السياحة لتركيا أو حتى الحد من صادرات الغاز إليها.
لو كان لدى بوتين قائمة الدول التي يريد معاقبتها بعد الحرب فستكون تركيا على رأس القائمة إلى جانب دول البلطيق وبولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وتحركات كهذه ستضع حملة إعادة انتخاب أردوغان عام 2023 موضع شك. ونفت الحكومة التركية علنا أنها زودت أوكرانيا بالمسيرات وقالت إنها من عمل شركات خاصة، وحتى لو زودت كييف فقد وضعت نفسها كوسيط، بما في ذلك لقاء وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا في أنطاليا بالعاشر من آذار/مارس. وتخشى تركيا هزيمة الروس أكثر من انتصارهم، لأن روسيا شريك مفيد وتعاونت معه تركيا في القوقاز وسوريا وليبيا، ومن هنا فالهزيمة ستعرض علاقة العمل للخطر. ولو كان لدى بوتين قائمة الدول التي يريد معاقبتها بعد الحرب فستكون تركيا على رأس القائمة إلى جانب دول البلطيق وبولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وسيحاول أردوغان تجنب المواجهة مع بوتين الذي قد يستخدم النفوذ الاقتصادي وحتى الهجمات الإلكترونية لتخريب حظوظه في انتخابات العام المقبل. وأكثر من هذا يريد أردوغان جذب المال الروسي لتعزيز الاقتصاد التركي. وربما تحولت تركيا إلى بلد عقارات للطبقة المتوسطة الروسية الراغبة بحماية ثروتها. ومن هنا تقوم استراتيجية أردوغان في أوكرانيا على تقديم الدعم الهادئ لكييف والحفاظ على علاقات دبلوماسية مع روسيا والحصول على المنافع الاقتصادية. ولم يدعم أردوغان العقوبات الغربية على روسيا ولا يزال يشتري النفط الروسي، وعلى خلاف الدول الغربية الأخرى أبقى على المجال الجوي التركي مفتوحا للطيران المدني الروسي. وربما كانت الاستراتيجية من وجهين مقبولة لروسيا في الوقت الحالي، ومن غير المحتمل قيام بوتين بفتح جبهة مع تركيا في الوقت الحالي. وبخاصة أنه يمنح الأثرياء الروس شريان حياة. ولو طال أمد الحرب واستمرت تي بي2 بإسقاط أرصدة روسية مهمة مثل موسكوفا ومنع تركيا للسفن الحربية الروسية من عبور المضائق التركية، فهذا سيضع أنقرة وموسكو أمام مواجهة مباشرة. ومع زيادة الضغوط على حكومة أردوغان لبناء علاقات مع التحالف الغربي، فإن تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة تحد كبير، فلم يتبين جو بايدن العلاقة مع أردوغان، ولا تزال العلاقة بينهما باردة. كل هذا رغم التحول في حلف الناتو وتجديد عدد من الدول الأوروبية علاقاتها مع تركيا بمن فيها حكومة رئيس الوزراء الهولندي مارك روت الذي خاض مع أردوغان معركة كلامية.
بايدن شعر بالإحباط من أردوغان بسبب إضعافه مؤسسات الديمقراطية وانتقاده إدارة أوباما وتحديه أولويات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
وكان بايدن كنائب للرئيس باراك أوباما المحاور الرئيس للأتراك ما بين 2013 و 2016، لكن العلاقة تدهورت بعدما لام أردوغان انقلاب مصر عام 2013 على الرئيس أوباما، ودعم تركيا لقوات حماية الشعب في شمال- شرق سوريا، مع أن بايدن وعد أن العلاقة ستكون مؤقتة وتكتيكية وتعاقدية، لتتحول إلى أمر غير هذا. وشعر بايدن بالإحباط من أردوغان بسبب إضعافه مؤسسات الديمقراطية وانتقاده إدارة أوباما وتحديه أولويات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. في مؤتمر الناتو الأخير رفض بايدن مقابلة الزعيم التركي. وحتى لو أعادت الحرب الأوكرانية تركيا إلى المعسكر الغربي، فلربما أخر بايدن والحلفاء الغربيين التقارب لحين الانتخابات التركية على أمل التخلص منه. ورغم زيادة أرصدة أردوغان عبر دبلوماسية المسيرات وحرب أوكرانيا إلا أنها لن تؤدي لانتخابه مرة ثانية- على افتراض أن الانتخابات حرة، إلا في حالة انتعش الاقتصاد.
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع