أصبح رغيف الخبز عنصراً مهماً في حياة معظم السوريين في مناطق سيطرة النظام والمناهضة له وسلطته الفاسدة في ظل الظروف القاسية التي يعاني منها أبناء الشعب السوري بكافة أطيافه.
ولكن لم أفكر يوماً بمعاناة أولئك الذين يصنعون رغيف الخبز ذاك, فيجبلون همومهم ومآسيهم بعجينة الرغيف علّهم يحرقونها كما تحرق أرواحهم البائسة.
يعمل “حمود” الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره ساعات طوال في فرن الخبز السوري في مدينة شانلي أورفا التركية، ويمضي ساعات العمل واقفاً دون كلل أو ملل ليساعد أهله في تأمين قوت يومهم, فهو بكر العائلة بعد استشهاد أخيه في إحدى ضربات النظام الغادرة لأحياء مدينة دير الزور في الرابع عشر من حزيران/يونيو 2014.
يسرد “حمود” قصته دون أن يتوقف عن عمله ولو للحظات, فقد اعتاد ذلك العمل حتى أصبحت حركات يديه تبدو للناظرين إليها أنها حركات لا إرادية, ترتبط بشكل وثيق بأرغفة الخبز تلك عندما يمررها له زميله في العمل، يوسف، “كنت في الثامنة من عمري عندما استشهد أخي علاوي، ولا أكاد أذكر الكثير من ملامحه إلا ابتسامته التي لم تكن تفارق وجهه”.
دخلنا الى تركيا وبقينا في مخيم رأس العين أو كما يسميه الأتراك “جيلان بينار” حيث درست هناك في مدرسة المخيم وكنت من المميزين في صفي وخصوصاً في مادة اللغة التركية”.
ويكمل حمود سرد حكايته بعناية فيها تفاصيل كل لحظة ألم ومعاناة عاشها “كان قرار إلغاء المخيم ثقيلاً علينا في بلد لم نعرف منه سوى بضع مئات الأمتار, ضمن أسوار المخيم التي لا أذكر أني خرجت منه إلا مرتين أو ثلاث مرات خلال فترة إقامتنا فيه”.
أمسك “حمود” بقبعته وجعل مقدمتها للخلف، وكأنه يريد أن يراني بوضوح، ويريد لعينيه أن تشاركانا الحديث, وأكمل “انتقلنا إلى مدينة أورفا وعمد والدي أن يجد لنا بيتاً نستأجره في حي يمتلئ بالسوريين, كي لا نشعر بالغربة فوق غربتنا التي ذقناها بعد رحيلنا من دير الزور، ولكن حياة المدينة تحتاج المزيد والمزيد من الجهد والعمل الشاق, لتأمين احتياجات العائلة, ولم يكن أمامي إلا أن أختار بين مدرستي التي أحب وبين العمل لمساعدة والدي الذي يعمل يوماً ويبحث عن عمل أياماً عدة”
وبينما كنت أراقب عن كثب حركات يديه اللتين لم تتيها عن أي رغيف خبز, دون أن تبرح عيناه النظر إليّ, وهو يتحدث: “عملت أولاً في محل لبيع الخضار لمدة خمسة أشهر, ومن ثم انتقلت للعمل في هذا الفرن منذ قرابة السنتين, وأصبحت معظم أوقات يومي هنا في هذا الفرن, فأخرج من البيت عند الساعة الخامسة عصراً ولا أعود إليه حتى الساعة التاسعة أو العاشرة صباحاً, لأخلد إلى النوم فأمامي ليل طويل من العمل”.
ومن ثم راح يتحدث باللغة التركية ليريني مدى قدرته على التحدث بها, وفي محاولة منه كأي طفل بريء أن يثبت ما قاله عن اجتهاده في المدرسة، ليقطع حديثنا عمر الشاب السوري الذي يماثل حمود في عمره، إن لم يكن أصغر منه حتّى، ببعض العبارات التركية أيضاً.
عمر شاب من عين العرب “كوباني” أبيض الوجه بعينين بنيتين وشعر خفيف السواد، هادئ وساكن معظم الوقت ولم أكد ألحظ وجوده في ذلك الفرن طوال ساعات العمل.
بدأ “عمر” حديثة عن المدرسة بشيء من الأسى لأنه لا يستطيع الكتابة والقراءة رغم قدرته على التحدث باللغتين العربية والكردية بطلاقة, وبعضاً من اللغة التركية تسعفه في أوقات حاجته لها إن احتاج، “لم أدرس في المدرسة سوى صفوفها الأولى فقط فقد تركت المدرسة في الصف الثالث لأننا نزحنا إلى ريف الحسكة حيث لم تكن هناك مدرسة ومن ثم انتقلنا إلى تركيا لتبدأ رحلة بحثي وأخي الكبير “مصطفى” عن عمل نساعد من خلاله أهلنا، فالحياة صعبة والأسعار دائماً ترتفع فصاحب البيت الذي نستأجره قد رفع علينا أجرة البيت ثلاث مرات, حتى أصبح الآن 600 ليرة تركية”.
ويضيف عمر وقد أزاح عيونه عني خجلاً من حلم هو حق من حقوقه كأيّ طفل “كم أتمنى أن أمسك كتاباً وأستطيع قراءته والتمعن في مفرداته وكتابة بعض العبارات على هوامش صفحاته”.
ومن ثم دخل “أحمد” إلى محادثاتنا بروح من الفكاهة كأخ يمازح أخويه الصغيرين “دعونا من كلامكما عن المدارس وركزا في أعمال الفرن, وإلا لن تتخرجا منه أبداً”.
“أحمد” شاب في العشرين من عمره من ريف دير الزور أيضاً ويحمل سمرة شباب الدير في محياه الوسيم بشعر أسود كعتم الليل ولحية خفيفة لم تكد تخط طريقها في وجهه.
لأحمد أيضاً أخ شهيد اعتقل منذ بداية انطلاق الثورة مع مجموعة من رفاقه وباءت كل محاولات أهله في إنقاذه من براسم وحوش الأمن والأمان المزيف, في بلد خلى من كل مقومات الحياة بما فيها الأمن والأمان.
يقول “أحمد” دون التخلف عن العمل أيضاً فهو المعلم بين مجموعة الشباب في الفرن، وملأت عيناه عبرات الشوق لأخيه: “بذل أبي كل ما بوسعه لإخراج “حمزة” من المعتقل ولكن دون جدوى، واستمر أبي في محاولاته حتى وصلنا خبر وفاته تحت التعذيب, فآثرنا الخروج من بلد تلاحقنا فيه هموم الشوق والأسى”.
وأكمل أحمد وهو يخفي ألماً ضاقت به صدره “دعونا نعمل ولا تفتحوا علينا باب الذكريات”.
وماذا عنك يا دوماني!!!!
سألت “محمد الدوماني”، هكذا سمى نفسه من فرط شوقه وحبه لدوما، المدينة التي قهرت الأسد وزفت شهداء كثر، فأجابني ببضع كلما لخصت نصوصاً وصفحات من الحنين والعذاب “آه، يا صديقي.. وهل في حياتنا إلا العذاب والألم”.
يبقى رغيف الخبز يتنقل بين أيدي هؤلاء الشباب ليمتزج بما قاساه كلّ منهم دون تفريق بين عربي أو كردي، شامي، حلبي أو ديري، وتكون عجينته طحيناً مع بعض الأسى، عجنته أيد سورية من مدن شتى، جمعتهم عجينة وبيت نار، لتطعم الناس. ألا ليت أياد سورية تعجن لنا ثورة وتطعمنا حرية وبلداً خالياً من الظلم والقهر والموت.
محمد المعري/المركز الصحفي السوري