المركز الصحفي السوري – علي حاج أحمد
لا أريد جنسيّة تركيةً ولا ألمانية، لا أريد أن أحظى بحقوق لاجئ، تلك الكلمة التي جعلت من كرامة العربي مداساً للقاصي والداني، أنا عربي أنا سوري والعرب رمز للكرامة منذ أقدم الأزمان، ولا ينتظرون من دول الغرب أن يمنحوهم الحياة الكريمة بنظرهم.
“صحيح بأن الزمن قد جار علينا، ولكن سبب جوره هو تآمرهم هم لا سواهم، فتحوا لنا أبوابهم وسخروا من عقولنا الفارغة بدريهمات قليلة ومساكن طيبة، بهدف سلب بلدنا والقضاء على عزّنا الذي توارثناه عبر الأجيال”، كلمات بليغة تدخل الصميم، خرجت من فم شيخ خمسيني أجبرته الحرب ودمويتها وفقدانه للولد والمعيل، أن يلجأ إلى تركيا التي لم تبق الأيام له في بلد نشأ فيه وترعرع أي أمل يُنتظر.
أبو محمد ابن ريف حمص رجل غطى الشيب لحيته، وأفقدته الهموم نظره بعد أن ذرف دموعه على ابنه الوحيد الذي سلبته إياه رصاصة غدر بلا ذنب يذكر.
يقول: “أنا من مدينة تلبيسة في الريف الشمالي لمحافظة حمص، كنت أعمل تاجراً للأقمشة وكانت أحوالي المادية أحسن من أن أحسد السلطان على معيشته، وكان لدي ولد وحيد وثلاث فتيات، كان سندي في العمل والحياة، شاب عشريني ينضح بالأخلاق وروح الشباب الثائرة، لم استطع أن أمنعه من الانضمام إلى صفوف الثوار في أول انطلاقة الثورة السورية المسلحة، ولكن الأيام قصمت ظهري عندما جاءني رفاقه بعد منصف الليل يحملونه كعريس تفوح منه رائحة العطر مضرج بدمائه بعد أن سلبته رصاصة شبابه، وسلبتني روحي معه، بفقده فقدت كل أمل في الحياة”.
يتابع أبو محمد حديثه بدموع تملأ وجنتيه قائلاً: “بعد استشهاد محمد ولحزني الشديد عليه فقدت بصري وأصابني داء السكري الذي أدى لشللي بشكل كامل، دون أي معيل يساعدني في إحضار أدويتي حتى، وبعد الحال الذي صرت إليه ودخول جيش النظام المدينة قامت عناصره بسلب وحرق كل ما أملك، لأخسر خلال أشهر قليلة كل شيء بنيته خلال سنين وأخسر ولدي حتى تمنيت أن أخسر الحياة التي باتت عذاباً لي بعد أن كانت سروراً ورضى.”
يتابع أبو محمد: “بعد كل ما حصل لي وبعد أكثر من محطةٍ للنزوح لم أجد سبيلاً إلا أن أصطحب زوجتي وأدخل إلى تركيا، وإن صح الكلام هي من اصطحبتي لأنني بتُّ أشبه بجثة تصارع الأنفاس، ورغم أن الحياة هنا خير من النزوح والوقوف على أبواب الناس طلباً للحاجة، إلا أنك تحس بنفسك غريباً في بلد ليس بلدك، الكل ينظر إليك نظرة شفقة أو حتى ملل وضجر من الأعداد الكبيرة للاجئين الذي باتوا يقاسمون الأتراك في حياتهم، فهما بلغ الأمر ستبقى في بلد لا يتمتع بالطباع التي تربيت عليها، لا لغةً ولا في طريقة الحياة، ستحس بأنك سلبت عروبتك وسلبت طباعك، وكل شيء من شأنه أن يذكرك بأن عربي”.
“الكل هنا يركض خلف الإقامة أو الجنسية أو أي شيء من هذه الأمور وعندما أرى ذلك قلبي ينفطر أكثر مما هو عليه، فكيف لشاب يسعى لأن يكون مواطناً تركياً أو أوربياً في سبيل الحصول على متطلبات حياة رخيصة الموت فيها أقرب غائب ينتظره، صحيح بأن بلدنا لم يعد يصلح للعيش، ولكن لابد لشمس الحق أن تشرق، ولابد أن نعود إليه أعزاء كرماء، فلا يصون كرامة الإنسان أو عرضه إلا وطنه مهما جارت الأيام عليه”.
أكثر من مليوني ونصف لاجئ سوري في تركيا متوزعون على مخيمات اللجوء في الجنوب والجنوب الشرقي من تركيا، والبعض الآخر في المدن التركية منهم من نقل عمله واستقر في البلد الجديد، بعد أن انقطعت به السبل في سوريا، الكثير منهم يطمح للحصول على إقامة في البلد الجديد من شأنها أن تحفظ له حقوقه كمواطن عادي، فيما يرفض الكثيرون الاستقرار على أمل العودة إلى وطنهم لأنهم أدركوا أن كرامة الإنسان لا تكون إلا في أرضه وبين ذويه.
فأبو محمد واحد من آلاف السوريين المنكوبين الذين سلبتهم الحرب كل شيء وهم يتمنون الموت وهو يفرُّ منهم، ورغم ما حلّ به لا زال يأمل بالعودة إلا بلده ولا يرغب في أي جنسية تمحو له عروبته كما يصف.