عُرف المجتمع السوري بجميع أطيافه شغفه في إحياء مناسبات الأفراح وغيرها ودعوة البعيد والقريب لها في ظل نسيج متناغم تجمعه نشوة السعادة التي عمد النظام على تعكيرها لحبه للون الواحد والهتاف الواحد في تمجيده على انتصاراته فوق جثث الأطفال والنساء وعلى ركام البيوت والمساجد بدل تحرير ما يزعم عنه في معزوفاته التي سئم العالم من سماعها.
“محمود” شاب سوري 26 عاماً، خرج مع أمه وأخوته الصغار إلى تركيا ليجد الآمال تكسّرت أمامه مثل أمواج البحار العاتية التي سحبت جثث أصدقائه في رحلة اللجوء، إذ تحاول أمه العثور له على ابنة حلال لأجل الزواج خلال زياراتها للجيران الذين جمعهم اللجوء والألم.
تستطرد أمه بالحديث بابتسامة حزينة عن مفارقتها الأيام الجميلة التي كانت في قريتها وتستذكر مناسبات الأعراس لكل عروسين بالزمن والمكان كأنها دفتر مفكرات و روزمانة تؤرخ فيها متى ولدت فلانة وماذا أنجبت وعن أيام العرس الذي يستمر على الأقل ثلاثة أيام يدعو فيه أهل العريس المئات من الضيوف لموائد الطعام الكبيرة وإحياء حفلات الدبكة التي يأتي لها بعض من مسافات بعيدة، تعبر قائلةً “نفرحُ ولا شيء يعكر صفونا حتى القمر والنجوم تراها تحتفل معنا وكأنها لآلئ “نقوط” للعروسين”.
تصف كيف كانت أصوات الطبل تملأ الأجواء وحلقة الدبكة الكبيرة في الساحة الكبيرة ولا شيء يقطع أوصالها سوى أجساد الأطفال الصغيرة التي تلعب “الطميمة” خلف ثياب النساء والرجال والابتسامة تعلو وجوههم وسقوط صورة القمر على عيونهم، الكل يأتي ليأخذ جرعة من السعادة بعيداً عن صخب دوائر النظام وأعماله القبيحة.
أكملت أمّ محمود بحرقة وحزن شديدين: “كان الكل في سعادة غامرة جداً حتى جاءنا ضوء سيارة مسرعة، ظنّ الجميع أنها لأحد المعزومين، إلى أن توقفت بعد أمتار ونزل منها عناصر بلباس عسكري وبدأوا إطلاق النار وطوقوا المكان وإذ بهم من قوات النظام داهموا العرس وأبعدوا الأطفال عن آبائهم الذين اعتقلهم النظام وحوّل المكان في برهة واحدة إلى ساحة حرب يريد من خلالها تحرير الجولان أو القدس المحتلة.
تعالت أصوات صرخات النساء والفتيات والعناصر يطلقون الرصاص بنهمٍ وقهقهة كبيرة في الهواء ترهيباً للأهالي حتى أن بعض النسوة وقعن على الأرض وتمرّغت وجوههن الوردية التي كانت أبهى من الورد نفسه بالتراب والحصى الذي أخدش رموش عيونهن.
تقول أم محمود والدّموع تجري من عينيها والمشهد يعود لذاكرتها كأنه الآن، لم يبقَ أحد إلا عناصر الدورية وبعض كبار السن الذين جابهوا طوال حياتهم أعتى أنواع الظلم والقهر من دور فرنسا إلى الآن ولن يخيفَهم شرذمةٌ صغار ليقول الضابط لأحدهم “ليه ما تدبك ولا مانك فرحان” فيرد عليه “تركنا الدبك من يوم صرتوا انتو” فردّ عليه العنصر “ليك شو ما تهددنا يا ختيار النحس، لو مانك كبير كان خليت لحيتك مكنسة للساحة”، فأجاب المسن المتكئ على عكازته المترسخة على الأرض التي توارثها عن أجداده: “شايفين هاي عصا ما بتضر ولا تنفع بس لأنها كانت بإيد أجدادي ما بتخلى عنها، وانتو تركتو أرض وتراب من هالبلد”.
ترك الضابط وعناصره المكان بكل خذلان وذل، ليعود الناس من جديد بعد سماع الأطفال ينادون “السيارة راحت” لتنمو بذور المحبة والفرح من جديد ويرجع الطبل للقرع وسط ساحتنا.
قصة خبرية بقلم طارق الجاسم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع