منذ أكثر من ستة قرون لاحظ عالِم الاجتماع وفيلسوف الحضارة عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م) أن الأتراك جددوا نضارة الحضارة الإسلامية بعد أن أبْلتها القرون، وقعدت بها النخب الممسكة بزمام الدولة العباسية، حين تخلَّت عن معاني الرجولة والقوة، وأدمنت الترف والخمول. ثم رمتها الأمم عن قوس واحدة، من المغول في الشرق إلى الصليبيين في الغرب، ونخر عظامَها الفكرُ الباطني.
وقد وجد ابن خلدون -الذي عاصر المماليك في مصر- أن اختراق الشعوب التركية لقلب العالم الإسلامي، وهيمنتَها العسكرية على زمام الأمور فيه، كان “عناية من الله تعالى سابقة، ولطائفَ في خلقه سارية”، فكتب:
“حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف، ولبستْ أثواب البلاء والعجز، ورُمِيت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسيّ الخلافة، وطمسوا رونق البلاد، وأدالوا بالكفر عن الإيمان، بما أخذ أهلَها عند الاستغراق في التنعُّم، والتشاغل في اللذَّات، والاسترسال في الترف، من تكاسُل الهمم، والقعود عن المناصرة، والانسلاخ من جِلدة البأس وشعار الرجولية. فكان من لطف الله سبحانه أنْ تداركَ الإيمانَ بإحياء رمَقه، وتَلافى شمل المسلمين بالديار المصرية، بحفظ نظامه، وحماية سياجه، بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية، وقبائلها العزيزة المتوافرة، أمراء حامية، وأنصارا متوافية.. يدخلون في الدين بعزائم إيمانية، وأخلاق بدوية، لم يدنِّسها لُؤْم الطباع، ولا خالطتها أقذارُ اللذات، ولا دنَّستها عوائد الحضارة، ولا كسَر من سورتها غزارةُ الترف.. فيسترشح من يسترشح منهم لاقتعاد كرسيِّ السلطان، والقيام بأمور المسلمين، عناية من الله تعالى سابقة، ولطائف في خلقه سارية. فلا يزال نشءٌ منهم يردف نشء، وجيل يعقب جيلا، والإسلام يبتهج بما يحصل به من الغَناء، والدولة ترِفُّ أغصانُها من نضرة الشباب.” (تاريخ ابن خلدون، 5/428).
وقد عبَّر ابن خلدون -وهو العربي اليمنيُّ الجذور- عن عمق أساهُ لأن العرب فقدوا روحهم المتوثبة وفتوتهم الأولى، بعد أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم شملهم، وأحال حياتهم من حياة الانتحار الجماعي في اقتتال بين القبائل دون غاية أو رسالة أخلاقية، إلى حياة التوحيد والوحدة والجهاد، لبناء عالم أفضل لهم وللبشرية.
والسبب في هذا التراجع -في تحليل ابن خلدون- هو إهمال العرب لمصدريْ قوتهم، وهما الرسالة الإسلامية والعصبية الاجتماعية. لكن ابن خلدون -وهو المسلم المتجاوز لحدود الانتماء العرقي- كان مغتبطا بأن التُّرك سدُّوا مسدَّ العرب في قيادتهم لمسار الحضارة الإسلامية، بعد أن خَبَت وهجُ الروح التي حرَّكت العرب الفاتحين في صدر الإسلام.
لقد منحت الحملات الصليبية والغزوات المغولية فرصة ذهبية للأتراك لاكتساب شرعية القيادة والريادة في العالم الإسلامي بجدارة، في وقت كان فيه المسلمون في مسيس الحاجة إلى براعة الأتراك العسكرية، واستعدادهم للتضحية. وهكذا امتدت حقبة الريادة التركية في العالم الإسلامي ثمانية قرون ونصف قرن، من تتويج أول سلطان سلجوقي -وهو السلطان طغرل- في بغداد عام 10555م إلى خلع آخر سلطان عثماني قوي -وهو السلطان عبد الحميد الثاني- في إسطنبول عام 1909م. وانتقل مركز ثقل الحضارة الإسلامية غربا مع حركة القافلة التركية المغرِّبة، من وسط آسيا إلى بلاد فارس، ثم إلى العراق والشام، وأخيرا إلى مصر والأناضول.
كانت الجنديَّة طريق الأتراك إلى القيادة، فهم لم يستحوذوا على وجدان المسلمين وولائهم إلا لحسن بلائهم وحملهم راية الملة والأمة. وقد برهن الترك على صلابة والتزام في الدفاع عن حدود دار الإسلام لا مثيل لهما لدى أي من الشعوب في تاريخ الإسلام. وبهذه الصفات تقدَّم ذلك الشعب القوي الشكيمة بجدارة، وانتقل من الصفوف الخلفية إلى الصدارة. وقد روى مؤرخ حلب ابن العديم قصة طريفة تدل على عمق التحول التاريخي الذي مرَّ به الترك في طريقهم إلى ريادة العالم الإسلامي. ففي معرض حديثه عن زحف السلطان ألب أرسلان -ثاني سلاطين السلاجقة- من العراق إلى الشام، كتب ابن العديم:
“ولما قَطع السلطان المُعظم الفرات من نهر الجوز، نزل بعض المروج على الفرات، فرآه حسنا، فأُعجب به، فقال له الفقيه أبو جعفر: يا مولانا احمد الله تعالى على ما أنعم به عليك، فقال: وما هذه النعمة؟ فقال: هذا النهر لم يقطعه قطُّ تركي إلا مملوكٌ، وأنتم اليوم قد قطعتموه ملوكا. قال: فلعهدي به وقد أحضر جماعة من الأمراء والملوك، وأمرني بإعادة الحديث، فأعدتُه، فحمد الله هو وجماعة من حضر عنده حمدا كثيرا.” (ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، 4/1974).
وقد بيَّنتُ في صدر كتابي عن (أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية) -وهو مترجم إلى اللغة التركية- أن العرب كانوا سيف الإسلام في حقبة الاندفاع، وأن الترك كانوا درع الإسلام في حقبة الدفاع، وكأنما انتقلت مصائر العالم الإسلامي من أيدي العرب إلى أيدي الترك منذ منتصف القرن الخامس الهجري. كما بيَّنتُ بالاستقراء التاريخي أن كل القادة العظام للمقاومة الإسلامية خلال الحروب الصليبية (سلاجقة، ودانيشمند، وأراتقة، وزنكيين، وخوارزميين، ومماليك) كانوا من أصول تركية.
فالمقاومة الإسلامية للحملات الصليبية -في وجهها السوسيولوجي والعسكري- كانت ظاهرة تركية في جوهرها. وما تخللها من دور رائع للسلطان الكردي صلاح الدين الأيوبي، تأكيدٌ للقاعدة لا خروج عليها، لأن صلاح الدين كان جزءا من النخبة العسكرية التركية لا مقابلا لها.
ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن المماليك الأتراك بقيادة بيْبرس هم من كسروا العاصفة المغولية العاتية في معركة عين جالوت بفلسطين، وهو نصرٌ أنقذ العالم الإسلامي من خطر مُميت لم يواجه مثلَه من قبل. كما أننا لسنا بحاجة إلى التذكير بجهد العثمانيين وجهادهم على مدى أربعمائة عام لصيانة حدود العالم الإسلامي، من سواحل الخليج إلى ضفاف المتوسط، ومن أدغال السودان إلى أعماق البلقان
ومما ساعد الأتراكَ في الإمساك بمصائر العام الإسلامي أنهم كسبوا العرب السنَّة إلى صفهم، وهم عمق الإسلام الروحي والثقافي. كما كسبوا الأكراد السنة إلى صفهم، وهم شعب محارب كانت له مواقف مشهودة في مقاومة الصليبيين. وقد توصلت النخبة السنية التركية والعربية والكردية إلى أرضية مشتركة من التفاهم، تتأسس على تقاسم الأدوار والمكانة. وقد لاحظ البحَّاثة في الأدب الفارسي والتركي، حسين مجيب المصري، أن الأتراك لم يتَّسِموا بالاستعلاء العرقي والثقافي في علاقتهم بالعرب بخلاف الفرس الذين تحكمت فيهم العُقد العرقية والثقافية تجاه العرب والترك معا على مرِّ القرون (المصري، صلات بين العرب والفرس والترك، ص 219-220).
وتعيش الأمة الإسلامية اليوم حالة انكشاف إستراتيجي خطير، تغذيها ظروف تمزُّق داخلي مزمن، واختراق خارجي خطير. وهي حالٌ تشبه حالها أثناء الحملات الصليبية والعاصفة المغولية. ومن المؤكد أنه لن يُخرج الأمة من هذا المأزق إلا ظهور قوة إسلامية تتصدر مسيرتها بعزم وجدارة.
وقد أدرك الفيلسوف السياسي صمويل هنتغتون هذا الأمر، وشرحه بإطناب في كتابه الذائع الصيت (صدام الحضارات)، وهو كتاب كثيرا ما أسيء فهمُه، وأسيء فهم مؤلفه الذي لم يكن داعية للحرب أو صدام الحضارات -وقد وقف في وجه الغزو الأميركي للعراق بشجاعة- وإنما كان مراقبا ذكيا، أدرك بفطنته أثَر الأديان والثقافات في العلاقات الدولية في أيامنا، خلافا لما كان عليه الحال خلال الحرب الباردة. وقد شرح هنتيغتون الفكرة الرئيسية في كتابه بالقول:
إن “العالم سيتم تنظيمه [بعد الحرب الباردة] على أساس الحضارات أو لن يُنظَّم أبدا. في هذا العالم دول المركز في الحضارات هي مصادر النظام، وذلك في داخل الحضارات ثم بين الحضارات مع بعضها، عن طريق التفاوض بين دول المركز في كل منها.. العوامل الثقافية المشتركة تعطي شرعية للقيادة، ولدور دولة المركز في فرض النظام، بالنسبة لكل من الدول الأعضاء، والقوى والمؤسسات الخارجية” (هنتيغتون، صدام الحضارات، ص254).
ثم توصل إلى أن “السلام لا يمكن أن يتحقق أو أن يتم الحفاظ عليه في أي منطقة إلا بقيادة الدولة المسيطرة في تلك المنطقة. الأمم المتحدة ليست بديلا عن القوة الإقليمية، والقوة الإقليمية تصبح مسؤولة وشرعية عندما تمارسها دولة المركز مع الدول الأعضاء في حضارتها. دولة المركز يمكن أن تقوم بوظيفتها النظامية، لأن الدول الأعضاء تنظر إليها كقُربَى ثقافية. الحضارة أسرة ممتدة، ومثل أعضاء الأسرة الأكبر سنا، تقوم دول المركز بتوفير الدعم والنظام للأقارب. وفي غيبة القُرْبى هذه، فإن قدرة الدولة الأقوى على حلِّ الصراعات في منطقتها أو فرض النظام فيها تصبح محدودة.” (صدام الحضارات، 255).
وقد لاحظ هنتيغتون حالة اليُتم التي تعيشها الحضارة الإسلامية في هذا العصر، لأنها لا تملك “دولة مركز” تتصدر مسيرتها، وتضبط خلافاتها الداخلية، وتدرأ عنها سهام الأعداء. فـ”عدم وجود دولةِ مركزٍ إسلامية يمثل مشكلات مهمة لكل من المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية” (صدام الحضارات، 221)، فهذا الأمر “مصدر ضعف بالنسبة للإسلام، ومصدر تهديد للحضارات الأخرى.” (ص 289).
وقد بدأت حالة الانكشاف الإستراتيجي هذه منذ تفكيك الدولة العثمانية على أيدي المستعمرين الأوربيين، مطالع القرن العشرين. فـ”نهاية الإمبراطورية العثمانية تركت الإسلام دون دولة مركز.. وهكذا فإنه على مدى معظم القرن العشرين لم يكن لدى أية دولة إسلامية قوة كافية، ولا ثقافة كافية، ولا شرعية دينية، للاضطلاع بهذا الدور، لكي تصبح مقبولة من الدول الإسلامية والمجتمعات غير الإسلامية، كزعيم للحضارة الإسلامية” (صدام الحضارات، 289).
وقد استعرض هنتيغتون ست دول إسلامية وقدَّم تقييما لإمكانية اضطلاع أي منها بدور “دولة المركز” في الحضارة الإسلامية، وهي: السعودية، ومصر، وتركيا، وإندونيسيا، وباكستان، وإيران. فوجد أن خمسا منها تعاني من موانع جوهرية تحول بينها وبين هذه الريادة، إما بسبب “عدد سكانها الصغير نسبيا وعدم حصانتها الجغرافية” (السعودية)، أو بسبب “الفوارق الدينية” بينها وبين جمهور الأمة وسوء العلاقة بينها وبين العرب (إيران)، أو لفقرها في الموارد الطبيعية (مصر)، أو لانقسامها العرقي وعدم استقرارها السياسي (باكستان)، أو لأنها “تقع على حدود الإسلام بعيدا عن مركزه العربي” (إندونيسيا).
وبقيت من الدول الست تركيا وحدها هي المؤهلة لريادة العالم الإسلامي، فـ”تركيا لديها التاريخ، وعدد السكان، والمستوى المتوسط من النمو الاقتصادي، والتماسك الوطني، والتقاليد العسكرية، والكفاءة.. لكي تكون دولة مركز. ولكن أتاتورك حَرَم الجمهورية التركية من أن تخلُف الإمبراطورية [العثمانية] في هذا الدور، وذلك بسبب تحديدها بكل وضوح كمجتمع علماني” (صدام الحضارات، ص 291). ثم فرضت عليها الحرب الباردة والخطر السوفياتي “التورط مع الغرب” (ص 236) في أحلافه، مما جعل تركيا “دولة ممزَّقة” (ص 243) في هويتها وفي خياراتها الإستراتيجية.
فالموانع التي تمنع تركيا من الصدارة والتحول إلى دولة المركز في العالم الإسلامي موانع عارضة، وليست موانع جوهرية، وهي الشطط الأيديولوجي العلماني الذي فُرض على شعبها، وفرض التبعية للغرب عليها، بينما تدعوها مكانتها وتاريخها وثقافتها إلى أن تكون رأسا في العالم الإسلامي، لا ذنَبا في الغرب. وقد انتبه هنتيغتون إلى أن تلك القيود المفروضة على تركيا بدأت تتآكل، فـ”في تركيا -كما في كل مكان- تؤدي الديمقراطية إلى الرجوع إلى الأصول وإلى الدين.” (ص 241)، ولذلك فإن “الانبعاث الإسلامي غيَّر شخصية السياسة التركية” (ص 241).
وختم هنتيغتون ملاحظاته الثمينة بإمكان تحرُّر تركيا من القيود المفتعلة المفروضة عليها نهائيا حين تستكمل اكتشاف ذاتها، وتعيد تعريف نفسها، فكتب: “ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها؟ عند نقطة ما يمكن أن تكون تركيا مستعدة للتخلي عن دورها المُحبِط والمُهين كمتسوِّل يستجدي عضوية نادي الغرب، واستئناف دورها التاريخي الأكثر تأثيرا ورُقيا كمُحاور رئيسي باسم الإسلام وخصم للغرب.” (ص 291). لقد صدر كتاب هنتيغتون منذ نحو عقدين من الزمان، ولو كان مؤلفه حيا اليوم لسَعِد بصدق تحليلاته، وعمق نظرته إلى المستقبل، فقد أعادت تركيا تعريف نفسها، واكتشفت جذورها.
إن عبرة التاريخ الذي استعرضناه هنا، ومنطق الجغرافيا السياسية الذي تحدث به هنتيغتون، يدلان على أن تحول أي من الدول اليوم إلى “دولة مركز” في العالم الإسلامي يستلزم شروطا ثلاثة:
– أن تكون قريبة مكانيا ووجدانيا من العالم العربي الذي هو القلب الثقافي للإسلام.
– وأن تملك القوة الاقتصادية والعسكرية والبشرية والمؤسسية الداعمة لطموحاتها.
– وأن تملك الإرادة السياسية والاستعداد للتضحية والمخاطرة ثمنا لهذه الريادة.
وتركيا هي الدولة الوحيدة التي يتوفر فيها الشرط الأول والثاني. أما الشرط الثالث فلم يتحقق بعدُ، كما يظهر من عجز تركيا عن وقف الجرح السوري النازف على حدودها منذ خمسة أعوام، رغم رغبتها في ذلك ومصلحتها فيه. وربما يكون السبب هو قيود الدولة العميقة والكيان الموازي الذي كان ينخر تركيا من الداخل، والخوف من غدر الغرب الذي يتربص بها الدوائر.
لكن فشل الانقلاب الأخير حرر أيدي تركيا إلى حد بعيد من هذين القيدين. وتدل الهزة الوجدانية التي صاحبت أحداث الانقلاب في جميع أرجاء العالم الإسلامي على أن فشل هذا الانقلاب ليس حدثا سياسيا عابرا، بل هو بداية انعطافة تاريخية كبرى، ستعيد الأتراك إلى صدارة العالم الإسلامي بجدارة.
محمد بن المختار الشنقيطي – ترك برس