ملامح رجال الحواجز تُظهر أنهم من آسيا الوسطى، وبرفقتهم رجال ربما يكونون عراقيين أو سوريين، وفوقهم ترتفع أعلام صفرٌ كتب عليها باللون الأخضر اسم «حركة النجباء» العراقية. وعلى حواجز أخرى أعلام حمرٌ وأخرى بيضٌ ربما تكون تابعة لـ «عصائب أهل الحق» العراقية أو قوات أخرى، مع غياب تام للعلم السوري الذي ترفعه قوات النظام. وبين هذه الحواجز هناك قرى صغيرة مهدمة ومهجورة، وأبنية بسيطة متروكة كانت استراحات للمسافرين على طريق دمشق نحو الرقة، فيما تبدو الأراضي الزراعية بلا استثمار منذ مواسم عدة، ولا يوجد أي أثر لقطعان الأغنام الكثيرة التي كانت موجودة على هذا الطريق قبل بضع سنوات. جبال بعيدة في نهاية الأراضي الواسعة. أزهار شقائق النعمان الحمر قرب أزهار البابونج الصفر تشكل لوحة ربيعية رائعة. هكذا، تبدو الطريق من سلمية إلى أثريا في ريف حماة الشرقي.
بلدة السفيرة قرب حلب أصبحت تجمعاً لقوات النظام، حيث تَشْغل قوات العقيد سهيل الحسن معظم المنازل في البلدة. بقايا المحال التجارية في البلدة تبيع الدخان والطعام. الشباب والرجال في المنطقة يصطبغون بالزي العسكري. وعلى رغم أن السفيرة لم تتعرض لقصف أو عمليات عسكرية إلا أن الحياة المدنية فيها أقرب إلى أوراق شجرة موسمية في فصل الخريف لم يتبق منها سوى بضع وريقات خضر تستعد للرحيل في القريب العاجل.
وفي شمال شرقي حلب، عشرات القرى التي حررتها قوات النظام من تنظيم «داعش» خلال العام الماضي، إلا أنه لا أثر لأي حياة مدنية في منازل القرى التي سُويّت بالأرض، ولا حتى لمظاهر الربيع الذي يبدو أن مجريات المعركة والمواد المستخدمة فيها جعلت طبيعة الأرض الرعوية أقرب إلى الطبيعة الصحراوية، على رغم أن معدلات الأمطار في المنطقة زادت عن المتوسط السنوي خلال الشتاء المنصرم. سواتر ترابية كثيرة تؤشر إلى التكتيك العسكري المتبع في اقتحام قرى مكشوفة من عشرات الكيلومترات.
ربما لا يكون هذا المشهد خاصاً بشرق حماة وشمال حلب بالتأكيد، ففي حمص اقتحمت قوات النظام حي بابا عمرو في شباط (فبراير) 2012 بعد قصفه بمختلف أنواع السلاح، وارتكبت مجازر ذبح بالسكاكين في كرم الزيتون والعدوية وحي السبيل والنازحين وشارع الرفاعي في آذار (مارس) ونيسان (أبريل) 2012، لذا غادر معظم السكان هذه المناطق من دون أن يعودوا منذ ذلك الوقت، بل حتى في أحياء حمص القديمة ومحيطها (16 حياً) لم تعد الحياة المدنية إلى الشوارع على رغم انتهاء المعارك منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولا تزال الأبنية محلاً لعمل ورشات «التعفيش» التي انتهت من تحميل الأثاث ومرت بسرقة أسلاك الكهرباء وأنابيب المياه إلى أن وصلت أخيراً إلى «اكتشاف جيولوجي» جديد في سقوف المنازل التي تشكل مصادر غنية بالحديد، فبدأت هدمها لاستخراجه.
الأحياء القريبة – التي لم تشهد أي نوع من القتال – خالية من الشباب والرجال تقريباً، إذ غادر معظمهم البلاد أو أجبروا على الالتحاق بصفوف مجموعات محسوبة على النظام بعد رفع سن الاحتياط إلى أكثر من أربعين سنة، أو ربما التحقوا بعمل خدمي لقوات تابعة للنظام، كصيانة السيارات وتعبئة الوقود وسواها. ويستطيع المتابع أن يلحظ ازدحاماً متزايداً على شباك استخراج جوازات السفر يومياً على رغم أن أعداد السكان تقل وتقل باستمرار.
قبل عامين ونصف العام تقريباً، كان حي الوعر الحمصي يعج بالحركة والحياة، وبالكاد تستطيع الأسر الجديدة تأمين مسكن نتيجة الازدحام والطلب المستمر على المساكن في المنطقة، حتى زاد عدد السكان عن 250 ألف نسمة. وقبل يومين فقط، كان يصعب على أي شخص أن يجد شخصاً آخر في طرقات الحي الخاوية بعد عملية التهجير القسري الأخيرة التي نتجت من حصار وقصف الحي لفترة طويلة. لقد شق أكثر من أربعين ألف مدني طريقهم خارج الحي خلال الشهرين الأخيرين فقط، نصفهم على الأقل غادر نحو شمال سورية إلى مناطق تسيطر عليها المعارضة. وعلى طريقهم نحو الشمال مروراً بدير بعلبة شرق حمص، وحتى وصولهم إلى قرية تادف المحطة الأخيرة قبل دخولهم مدينة الباب التي تسيطر عليها قوات «الجيش الحر» العاملة في عملية درع الفرات، مروراً بعشرات القرى المهجورة والمهدمة والخاوية على عروشها. طرقات رئيسية باتت سككاً عسكرية، ومظاهر مدنية معدومة، ومرافق خدمية تحولت لخدمة الجيش والهجرة، كل ذلك جعلهم يشعرون أثناء مغادرتهم بأنهم ربما كانوا آخر المدنيين في سورية. وليد فارس