يستيقظ أبو محمد كل يوم من الصباح الباكر ليقوم بتهيئة أطفاله للمدرسة بقلب حنون ويد عطوف تعوضهم عن حنان الأم الذي فقدوهبقدهم إياها، محمد وعبد الرحمن وبشر ثلاثة أطفال مازالوا ينتظرون والدتهم التي اختفت بمجزرة المحكمة التي وقعت في مدينة ادلب، وأقصد انها اختفت إذ لم يجد أحد لها أثرا، رغم ان شهودا عيانا أكدوا رؤيتهم لها في ذلك اليوم.
إذ في صباح يوم الأحد الموافق لـ 20/12/2015 استهدف الطيران الحربي مبنى المحكمة في محافظة إدلب الذي أسفر عن مجزرة جماعية راح ضحيتها العديد من المدنيين والأبرياء من ضمنهم المحامية هدى عبد الرحيم حلاق.
يروي لنا زوجها المحامي ياسر دعموس أحداث ذلك اليوم المشؤوم بصوت متقطع وقلب فاقد للأمل من رجوع زوجته هدى، تلك المحامية التي خاطرت بنفسها كي تقوم بعملها وتؤدي واجبها المهني تجاه القضايا التي بحوزتها للناس، قائلا: (استيقظت كعادتها في الصباح الباكر، أعدت القهوة وجلست تراجه بعض الأوراق المتعلقة بقضية أحد موكليها، وبينما هي تقرأ ارتفع صوت هدير الطيران الحربي في المنطقة، قالت لي : سأخرج مبكرة اليوم لأقوم برفع الدعوة ثم أعود بسرعة.. ابق أنت مع الأطفال وأنا سأحاول العودة باكرا قبل ذهابك للعمل، لم أكن مرتاحا لخروجها.. ولكنها كعادتها قوية وحازمة.. تحب تأدية عملها دون خوف من طيران أو أي حادث قد يحدث..) بصمت قليلا يبتلع مافي فمه من لعاب ليوهمنا أنه يحاول التماس العذر لصمته الذي طال أكثر من المعتاد، فكأنه يحاول ابتلاع غصة من دموع ومواجع وآلام..
يكمل (بعد خروجها ببضع دقائق تعالى صوت الطيران الحربي فنفّذ خمس غارات في المنطقة استهدفت المحكمة وعدة مناطق في حي الجلاء من مدينة إدلب، من شدة الضربة اهتز البيت وكأنه سيقع فوق رؤوسنا لكون البيت قريبا من المحكمة، ركضت مسرعا إلى النافذة والأطفال من حولي ممسكون بي خائفين، فرأيت الدخان يتصاعد من مبنى المحكمة.. قلت في نفسي اللهم سلم.
ما عساي أن أفعل؟ لم يكن بمقدوري ترك الأطفال بمفردهم وكنت على يقين بأن هدى أصيبت، أخذت الأطفال لجارتنا وذهبت أكتشف الأمر.
بحثت عنها في كل مكان: بين الجثث المرمية وفي المستشفيات وبين الأشلاء لعلّي أجدها ولكن ما من جدوى، استفسرت من الدفاع المدني المتواجد هناك قال لي أحد العاملين: (أنا أعرف الأستاذة هدى، تم نقلها مع الحالات الحرجة إلى خارج المدينة)،هنا استبشرت خيرا قلت الحمد لله كونها على قيد الحياة، عدت إلى البيت وأخذت الأطفال لبيت جدهم في بلدة زوجتي، لم أكن قادرا على إخبارهم بداية، كيف لعمي المريض أن يتحمل خبرا كهذا وهو من يضع الأمل في هدى لتخرج أخويها المعتقلين من سجون النظام، أخبرتهم بالأمر وطمأنتهم عن حالها، أنها بخير وقد نقلت عبر باب الهوى إلى تركيا.
تركت الأطفال لديهم وعدت للمدينة بصحبة أعمامها لنستقصي عن وضعها، قسم ذهب إلى المعبر ليبحث بين أسماء المصابين عنها وقسم منا أتجه لمكان الحادث، أكد لنا موظفو المعبر أن اسمها لم يكن بين أسماء المصابين الداخلين إلى تركيا ومع هذا لم نفقد الأمل، لربما أدخلوها باسم مستعار، تواصلت عمليات البحث المستمرة داخل تركيا من قبل أختها المتواجدة هناك ونحن هنا مازلنا نبحث بين الجثث الخارجة من تحت الأنقاض، ولكن دون أي فائدة تذكر).
وفي أثناء حديث أبي محمد يدخل بشر أصغر أولاده ليجلس في حضن أبيه، ينظر أبو محمد بعينين مليئتين بالحزن لطفله الذي تيتّم باكرا، يمسح بيده على رأس طفله الصغير لعله يعوضه عن جزء من حنان أمه الذي سلب منه.
يتابع حديثه واصفا لنا تلك الأيام المريرة التي عاشها قائلا: (مضى أسبوع على اختفائها ولم نجد لها أي أثر وكل الجهود في محاولة ايجادها داخل تركيا باءت بالفشل، الجميع قطع الأمل من عودتها ما عدا قلبي والأطفال..
ما زلنا نحلم بموعد رجوعها أو سماع أي خبر عنها إلى أن جاء ذلك اليوم حين قرع جرس الباب فوجدت رجلا أخبرني بأنه رأى امرأة من شباك بيته ترتدي عباءة سوداء متلثمة بحجابها.. في يدها حقيبة بنية اللون ممسكة بمدونة فضية.
قال لي: ” رأيت الخبر الذي وضعتموه على مواقع التواصل الاجتماعي عن فقدان امرأة بهذه المواصفات فبحثت عن العنوان وجئت أخبركم أنني رأيتها قبل ضرب المبنى بثواني دخلت إليه”.. ما عساي أن أفعل بعد سماعي لكلام الرجل أأقنع قلبي بوفاتها أم أبقيه آملا برجوعها؟
تختلط الأفكار في رأسي كيف لمرأة ضخمة الجسم قوية البنية أن تتحول لفتات دون أن نجد ولو جزءاً بسيطا من أشلائها ولو قطعة من ثيابها أو حقيبتها اليدوية، أليس هذا الأمر يدعو للحيرة والتساؤل؟!
ومضت سنة على تلك المجزرة وعلى فقدانها وأنا ما زلت أبحث عنها .. آملا برجوعها).
يختتم أبو محمد قصته بتلك الكلمات التي تنبض بالألم مفسحا المجال للعديد من التساؤلات عن سر اختفائها، هل ستعود هدى يوما لتعود معها الضحكة لتلك العائلة الحالمة برجوعها أم أنها ارتقت للسماء السابعة وأصبحت في رحمة الله ؟!
المركز الصحفي السوري – نور سالم