أثار وباء كورونا هزة كبرى في الأسواق وغير الاقتصاد العالمي دفعة واحدة، في ضوء شلل لم يشهد له مثيل منذ سنوات عديدة مع انطواء كل دولة على نفسها.
فالعديد من الأعمال التجارية لا يبدو أنها ستعود إلى العمل، وحتى لو عادت فقد تستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تنتعش؛ فقطاعات السياحة والطيران تضررت على نحو خاص، وبعض من شركات الطيران المعروفة أعلنت عن بيع أساطيل كاملة من الطائرات بل وعن اختفائها عن الخريطة إذ ليس لها سبيل “للعودة للوقوف على أقدامها”.
نتاج فرعي للضرر الذي لحق بالسياحة العالمية هو ضرر شديد على نحو خاص في صناعة النفط: الطرق فارغة، والطائرات متوقفة. ونتيجة ذلك، لا يوجد طلب على النفط، وسعره ينخفض إلى ذرى سلبية لم يشهد لها مثيل منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 – 2009. وحسب بعض التقديرات، سينخفض استهلاك النفط العالمي بما لا يقل عن 25 مليون برميل في اليوم، أي نحو ربع الاستهلاك العادي. والمعنى هو كما أفادت “نيويورك تايمز”.. تعديل منشآت نفط كاملة، لأنه لن يكون مكان تبعث به النفط الخام؛ فالمصافي ستبدو مكتفية، ما يضطر بقاء النفط تحت الأرض. هذه هزة ستضر بالدول الأكثر ثراء في العالم، ولكنها كفيلة بذات القدر أن تهز أنظمة دول مارقة مثل فنزويلا وإيران، تعتمد على رشوة مواطنيها من خلال أرباح صناعة النفط.
وإن لم تكن الأزمة الاقتصادية كافية، فثمة آثار جغرافية – سياسية لكورونا في منطقتنا: روسيا والسعودية تحاولان استغلال الوضع من أجل إعادة تصميم السوق من خلال تخفيض الأسعار بل وإعادة تصميم الشرق الأوسط أيضاً.
أمل السعودية
كل شيء بدأ بتفجر المفاوضات بين الرياض والكرملين على تنسيق الأسعار. فقد أملت السعودية أن يوافق الرئيس فلاديمير بوتين على استئناف الاتفاق الذي يتقلص في إطاره إنتاج النفط العالمي كي تستقر الأسعار في ضوء انعدام الطلب. ولكن روسيا التي تخوفت أغلب الظن من أن مثل هذه الخطوة ستعزز قطاع الطاقة الأمريكي، رفضت استئناف الاتفاق. وعقدت في الشهر الماضي قمة وزارة في فيينا في محاولة لاستئناف الاتفاق، ولكنها تفجرت. مهما يكن من أمر، فإن تفجير المحادثات بين الأطراف أدى بالسعودية لأن تخفض الأسعار من طرف واحد في محاولة لدفع الدول الأوروبية على أن تستورد منها بدلاً من روسيا. إذ يمكنها أن تسمح لنفسها باحتمال المخاسر، سواء بسبب ثرائها العظيم أم بسبب كلفة الإنتاج الزهيدة نسبياً لديها. روسيا هي الأخرى خفضت الأسعار بشكل كبير، وذلك منعاً لمصدري النفط الأمريكيين من الحصول على نصيب آخر من السوق. وسواء خسرت روسيا أم السعودية مرابح كبرى في المدى القصير كان يمكنهما أن تجنياها لو نسقتا الأسعار، ولكن يبدو أن الرياض وموسكو على حد سواء تنظران في المدى البعيد إلى عصر ما بعد كورونا. بالنسبة للسعودية، تعد هذه حرباً استراتيجية على مستقبل الشرق الأوسط. فروسيا لا تزال إلى جانب إيران: الكرملين يرفض المشاركة في العقوبات الشديدة على طهران، وعملياً ينقذ نظام آيات الله من خلال التجارة معه، ولا يزال معنياً بإنقاذ الاتفاق النووي.
كما أن روسيا لا تزال تدعم نظام الأسد، بينما السعودية تريد إسقاطه. الانتصار على روسيا في الشرق الأوسط سيحقق للسعودية أكثر بكثير من كل ما يمكن لبرميل النفط أن يفعله، ولهذا فإنها تشعر بأن بوسعها أن تسمح لنفسها في هذه اللحظة أن تتضرر في المدى القصير. “حروب أسعار النفط ستغير قواعد اللعب في الشرق الأوسط”، كما نقل عن مستشار كبير للأسرة المالكة السعودية في مقال صدر عن معهد “غيتستون”. وعلى حد قوله، فإن “الروس متعلقون بمداخيل النفط لتمويل أعمالهم العسكرية في سوريا، وإذا ما انهارت هذه المداخيل فلن يتمكنوا بعد اليوم من السماح لأنفسهم بهذه الحروب”. ولكن كما أسلفنا، فإن روسيا مستعدة هي أيضاً لأن تأخذ هذه المخاطر وألا تنسق هذه الأسعار مع السعودية لأسبابها الخاصة، وهي أيضاً ترتبط بمسائل جغرافية – سياسية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. ففي السنوات الأخيرة، رأت روسيا كيف تستغل الولايات المتحدة ارتفاع الأسعار كي تحقق الأرباح عن طريق النفط، وتحديداً من خلال الدفاع قدماً بصناعة مشتقات الزيت كبديل عن النفط الخام. وهكذا، بشكل غير مباشر، دعمت موسكو والسعودية عملياً صناعة مشتقات الزيت وقدمتا على طبق من فضة سوق الطاقة العالمية إلى الولايات المتحدة. وعليه، فإن روسيا تستغل أزمة كورونا كي تجعلها ميزة لها أيضاً: استغلال انهيار أسعار النفط للضغط على ترامب لتخفيف حدة العقوبات على موسكو.
منطق بوتين
إن منطق بوتين هو استغلال الأزمة وتحويلها إلى فرصة: من يتضرر أشد الضرر من انخفاض أسعار النفط هو قطاع مشتقات الزيت، التي أصبحت سلاح الولايات المتحدة المحطم للتوازن. ونتيجة لذلك، يتعرض الرئيس ترامب لانتقاد متزايد من أكثر مؤيديه في الاقتصاد الأمريكي. لقد بدأ وضع ترامب في تكساس يهتز مؤخراً بسبب انهيار سوق الطاقة. مهما يكن من أمر، يبدو أن روسيا والسعودية لن تنجحا في الانتصار على السوق نفسها. فحتى الأسعار الدون التي يعرضانها لن تؤدي بالطائرات لأن تطير مرة أخرى ولا السيارات أن تتحرك على الطرقات، طالما استمرت أزمة كورونا.
في المدى القصير، كلتاهما تأملان في حشر الولايات المتحدة في الزاوية، وفي سنة الانتخابات الحالية، يبدو أن ترامب سيكون الأكثر هشاشة إذا ما استمر الوضع الحالي.
بقلم: ايرز لين
القدس العربي