هل يكون “الحل” للوضع المستعصي في سورية خروجا آمنا للرئيس بشار الأسد، مع بقاء جُلِّ نظامه، بما في ذلك شقيه، الأمني والعسكري، قائما؟ الجواب، ربما، حسب تقرير لصحيفة “الإندبندنت” البريطانية كتبه مراسلها، أوليفر رايت، من بافاريا الألمانية، أين انعقدت قبل أسبوعين، تقريبا، قمة مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى. في تفاصيل التقرير المنشور، في الثامن من يونيو/حزيران الجاري، بعنوان: “قمة السبعة الكبار: الرئيس الأسد قد ينفى إلى روسيا والغرب يخطط للتصدي لداعش في سورية”، ناقش قادة الدول الكبرى، في قمتهم، حلا دبلوماسيا مقترحاً يقوم على إرغام الأسد على اللجوء إلى روسيا ضمن اتفاق غربي-روسي مشترك. وينقل التقرير عن مصادر مطلعة أن الولايات المتحدة وروسيا، على الرغم من خلافاتهما العميقة بسبب الأزمة الأوكرانية، توصلا إلى استنتاج أن السبيل الوحيد للتصدي لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، خصوصا في ظل الهزائم المتكررة للنظام السوري وانعدام كفاءة قوات “المعارضة المعتدلة” المدعومة من الغرب، يكون بالتوافق على تشكيل حكومة جديدة في دمشق، تكون مقبولة من الطرفين (أميركا وروسيا)، ويمكن دعمها عسكرياً لمجابهة “داعش”. وحسب التقرير، فإن الصفقة المحتملة، تقوم على إبقاء الجزء الأكبر من النظام القائم حاليا، ولكن، تحت قيادة جديدة. واستناداً إلى التقرير، كان وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قد ناقش هذا المقترح مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في موسكو الشهر الماضي. وينقل التقرير عن مسؤولين في رئاسة الوزراء البريطانية، أن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، ورئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، ناقشا في اجتماعهما في قمة السبعة الكبار، فرص مثل هذا الحل، وبأن إمكانية حدوث “تغيير محدود في بنية النظام السوري” أكبر من أي وقت مضى.
ما سبق كان ملخص تقرير لم يكشف جديدا، اللهم إلا لناحية توثيق ما يحاك لسورية ومكانتها وشعبها.
منذ انطلاقة الثورة السورية مطلع عام 2011، بدا واضحاً أن أطرافا خارجية، عربية وأجنبية، متضادة، التقت على أمر واحد، هو إجهاض سورية الدولة والثقل. ففيها انقسمت الأجندات الإقليمية والدولية، وتعارضت، فكان أن أضعَفت وقوَّت النظام والثورة في آن، ووضعتهما في حالة أقرب إلى العجز عن الحسم، فلا النظام كان قادرا على سحق الثورة نهائيا، ولا الثورة كانت قادرة على اقتلاع النظام، وتحقيق نصر حاسم ونهائي عليه.
أكثر من سنين أربع، والثورة السورية تراوح مكانها، تتقدم خطوة وترجع أخرى، تأتيها وعود الدعم الإقليمية والدولية السخية، فتنتهي بـ”فأر” تمخض به جبل الوعود. وبسبب سياسة الخنق التي مورست على تسليح الجيش السوري الحر، وجدت نار التطرف يباساً تمسك به، لتزيد سورية حريقاً على حريق.
هل ذلك كله مصادفة؟ هل فعلا البيت الأبيض متردد في اتخاذ قرار دعم الثورة السورية، لقلقه من القوى الإسلامية “المتطرفة” على الأرض؟
الولايات المتحدة الأميركية التي فوجئت بسرعة انتقال شعلة الثورة من تونس، أواخر عام 2010، في هشيم الظلم والقمع العربي القائم، كانت في حالة من اللهاث وراء الأحداث وتسارعاتها. فمن تونس إلى مصر إلى ليبيا ثم اليمن.. كلها أحداث أربكت صانع القرار الأميركي، ودفعته إلى اتخاذ قرارات سريعة، وبدون روية وتفكير كافيين. ولكن، وفّرت سورية لها ولحلفائها من العرب المصرّين على بقاء أنظمة القمع البالية فرصة لالتقاط الأنفاس، والمسارعة إلى إعادة ترتيب أوراقهم، وكسر حدة رياح التغيير العاتية التي تهدد بكنس كل نظام متهالك قائم على الاستغلال والكبت والطغيان.
“يترنح بشار الأسد في سورية، ويبدو أن صفحته شارفت على الانطواء، غير أن خصوم سورية، الدولة والمكانة والثقل، حريصون على إبقائها مجهضة، بإصرارهم على الإبقاء على نظامه مع بعض الرتوش التجميلية“
في سورية، تعارضت المصالح، والتقت في آن، ضمن توليفة غريبة. تعارضت في الموقف من النظام، فتداعت أنظمة “الاعتدال العربي” مع الولايات المتحدة، لإضعاف النظام السوري وحلفائه في إيران ولبنان، خصوصاً بعد أن ظفرت إيران بالعراق، بعد الغزو الأميركي له عام 2003، وإسقاط نظام صدام حسين. ورأت إسرائيل في إضعاف النظام السوري فرصة سانحة لها، لشرذمة “محور الممانعة” في المنطقة المتشكل سابقاً من سورية وإيران وحزب الله وحماس، فكان لها ما أرادت. كما ظفرت الولايات المتحدة بغنيمة أخرى، لا تقل كارثية على المنطقة وأبنائها ومصالحها لأجيال قادمة، وتمثل ذلك بإعادة ابتعاث “الصراع” السني-الشيعي الذي يهدد باستنزاف المنطقة إلى عقود مقبلة. ولعبت إيران المنتشية بوهم نصرها في العراق، ثمّ اليمن، دور المبضع الذي أعاد نكء جراحات الماضي، لكنها، في المحصلة، كانت تخدم مصالح أميركا وإسرائيل بذلك، من حيث أرادت أم لم ترد، لا يهم، فالنتيجة واحدة.
على الجانب الآخر من المعادلة، وقفت روسيا والصين وإيران وحزب الله وعراق نوري المالكي بقوة مع نظام الأسد، الأمر الذي مكّنه من البقاء. ولكن، حتى روسيا، المزود الأول للنظام بالسلاح النوعي تتحكم بصنبوره بشكل يضمن عدم اختلال معادلة الصراع كلياً لصالح النظام، دع عنك إسرائيل طبعا.
وهذا ما يعيدنا إلى موضوع التوليفات الغريبة في السياق السوري، بحيث يبقى الجميع في حالة استنزاف في أفق الوصول إلى صفقات وتسويات في المنطقة، ضمن مقاربة أميركا وبعض العرب لكسر عتوّ رياح التغيير وعدم وصولها إلى شواطئ أخرى. وهكذا، التقت مصالح الأنظمة القمعية القائمة مع حسابات الخارج، لإعادة لَجْمِ المنطقة وسحق مطالب أبنائها المشروعة في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة.
اليوم، يترنح بشار الأسد في سورية، ويبدو أن صفحته شارفت على الانطواء، غير أن خصوم سورية، الدولة والمكانة والثقل، حريصون على إبقائها مجهضة، بإصرارهم على الإبقاء على نظامه مع بعض الرتوش التجميلية. هم لا يريدون خيرا بسورية، فليس فقط أن المجرم سينفذ بجرائمه، بل إن سورية التي نكبت ستبقى تئن تحت وطأة من نكبها. جرّب المصريون والتونسيون والليبيون واليمنيون منطق “عفا الله عما سلف” مع طغاتهم، فكانت النتيجة ما نرى اليوم. في سورية الأمر أعظم، فمجرموها لم يبقوا حجرا على حجر، ولم يتركوا عائلة أو فردا إلا وطاولهم إجرامهم.
سورية هي قلب المؤامرة على هذه الأمة، وما يحاك لها سيعيد تشكيل خرائط، وسيحدد مصائر في المنطقة. أليس في إسرائيل دعوات اليوم لقبول دولي بضمها هضبة الجولان المحتلة، بذريعة أن سورية “دولة فاشلة”؟ أليس في الأردن بعض من ينادي بتوسع المملكة شمالاً في سورية، وشرقاً في العراق؟ أليست إيران تعتبر عاصمة الأمويين، دمشق، فلكاً هامشياً في فضائها؟
سورية اليوم تستنزف وتحرق لإجهاض أمة بأسرها. سورية هي عقدة المنشار. تآمر عليها الأجنبي الاستعماري، والإيراني الطائفي وأشياعه، وبعض طغاة عرب، ونظام سلطوي مجرم، ومعارضة ضعيفة مهلهلة، متعددة الولاءات، و”دولة إسلامية” مشبوهة، يقوم عليها مختلون عقليا. سورية اليوم أحد عناوين محنتنا كأمة، أين نحن في وضع المفعول به، لا الفاعل، يقرر لنا غيرنا مصائرنا، وعلى حساب دمائنا، في حين ينوب طغاتنا في أخذ وكالة جزئية في تنفيذ مخطط تدميرنا جميعا.
ما سبق كان ملخص تقرير لم يكشف جديدا، اللهم إلا لناحية توثيق ما يحاك لسورية ومكانتها وشعبها.
منذ انطلاقة الثورة السورية مطلع عام 2011، بدا واضحاً أن أطرافا خارجية، عربية وأجنبية، متضادة، التقت على أمر واحد، هو إجهاض سورية الدولة والثقل. ففيها انقسمت الأجندات الإقليمية والدولية، وتعارضت، فكان أن أضعَفت وقوَّت النظام والثورة في آن، ووضعتهما في حالة أقرب إلى العجز عن الحسم، فلا النظام كان قادرا على سحق الثورة نهائيا، ولا الثورة كانت قادرة على اقتلاع النظام، وتحقيق نصر حاسم ونهائي عليه.
أكثر من سنين أربع، والثورة السورية تراوح مكانها، تتقدم خطوة وترجع أخرى، تأتيها وعود الدعم الإقليمية والدولية السخية، فتنتهي بـ”فأر” تمخض به جبل الوعود. وبسبب سياسة الخنق التي مورست على تسليح الجيش السوري الحر، وجدت نار التطرف يباساً تمسك به، لتزيد سورية حريقاً على حريق.
هل ذلك كله مصادفة؟ هل فعلا البيت الأبيض متردد في اتخاذ قرار دعم الثورة السورية، لقلقه من القوى الإسلامية “المتطرفة” على الأرض؟
الولايات المتحدة الأميركية التي فوجئت بسرعة انتقال شعلة الثورة من تونس، أواخر عام 2010، في هشيم الظلم والقمع العربي القائم، كانت في حالة من اللهاث وراء الأحداث وتسارعاتها. فمن تونس إلى مصر إلى ليبيا ثم اليمن.. كلها أحداث أربكت صانع القرار الأميركي، ودفعته إلى اتخاذ قرارات سريعة، وبدون روية وتفكير كافيين. ولكن، وفّرت سورية لها ولحلفائها من العرب المصرّين على بقاء أنظمة القمع البالية فرصة لالتقاط الأنفاس، والمسارعة إلى إعادة ترتيب أوراقهم، وكسر حدة رياح التغيير العاتية التي تهدد بكنس كل نظام متهالك قائم على الاستغلال والكبت والطغيان.
“يترنح بشار الأسد في سورية، ويبدو أن صفحته شارفت على الانطواء، غير أن خصوم سورية، الدولة والمكانة والثقل، حريصون على إبقائها مجهضة، بإصرارهم على الإبقاء على نظامه مع بعض الرتوش التجميلية“
في سورية، تعارضت المصالح، والتقت في آن، ضمن توليفة غريبة. تعارضت في الموقف من النظام، فتداعت أنظمة “الاعتدال العربي” مع الولايات المتحدة، لإضعاف النظام السوري وحلفائه في إيران ولبنان، خصوصاً بعد أن ظفرت إيران بالعراق، بعد الغزو الأميركي له عام 2003، وإسقاط نظام صدام حسين. ورأت إسرائيل في إضعاف النظام السوري فرصة سانحة لها، لشرذمة “محور الممانعة” في المنطقة المتشكل سابقاً من سورية وإيران وحزب الله وحماس، فكان لها ما أرادت. كما ظفرت الولايات المتحدة بغنيمة أخرى، لا تقل كارثية على المنطقة وأبنائها ومصالحها لأجيال قادمة، وتمثل ذلك بإعادة ابتعاث “الصراع” السني-الشيعي الذي يهدد باستنزاف المنطقة إلى عقود مقبلة. ولعبت إيران المنتشية بوهم نصرها في العراق، ثمّ اليمن، دور المبضع الذي أعاد نكء جراحات الماضي، لكنها، في المحصلة، كانت تخدم مصالح أميركا وإسرائيل بذلك، من حيث أرادت أم لم ترد، لا يهم، فالنتيجة واحدة.
على الجانب الآخر من المعادلة، وقفت روسيا والصين وإيران وحزب الله وعراق نوري المالكي بقوة مع نظام الأسد، الأمر الذي مكّنه من البقاء. ولكن، حتى روسيا، المزود الأول للنظام بالسلاح النوعي تتحكم بصنبوره بشكل يضمن عدم اختلال معادلة الصراع كلياً لصالح النظام، دع عنك إسرائيل طبعا.
وهذا ما يعيدنا إلى موضوع التوليفات الغريبة في السياق السوري، بحيث يبقى الجميع في حالة استنزاف في أفق الوصول إلى صفقات وتسويات في المنطقة، ضمن مقاربة أميركا وبعض العرب لكسر عتوّ رياح التغيير وعدم وصولها إلى شواطئ أخرى. وهكذا، التقت مصالح الأنظمة القمعية القائمة مع حسابات الخارج، لإعادة لَجْمِ المنطقة وسحق مطالب أبنائها المشروعة في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة.
اليوم، يترنح بشار الأسد في سورية، ويبدو أن صفحته شارفت على الانطواء، غير أن خصوم سورية، الدولة والمكانة والثقل، حريصون على إبقائها مجهضة، بإصرارهم على الإبقاء على نظامه مع بعض الرتوش التجميلية. هم لا يريدون خيرا بسورية، فليس فقط أن المجرم سينفذ بجرائمه، بل إن سورية التي نكبت ستبقى تئن تحت وطأة من نكبها. جرّب المصريون والتونسيون والليبيون واليمنيون منطق “عفا الله عما سلف” مع طغاتهم، فكانت النتيجة ما نرى اليوم. في سورية الأمر أعظم، فمجرموها لم يبقوا حجرا على حجر، ولم يتركوا عائلة أو فردا إلا وطاولهم إجرامهم.
سورية هي قلب المؤامرة على هذه الأمة، وما يحاك لها سيعيد تشكيل خرائط، وسيحدد مصائر في المنطقة. أليس في إسرائيل دعوات اليوم لقبول دولي بضمها هضبة الجولان المحتلة، بذريعة أن سورية “دولة فاشلة”؟ أليس في الأردن بعض من ينادي بتوسع المملكة شمالاً في سورية، وشرقاً في العراق؟ أليست إيران تعتبر عاصمة الأمويين، دمشق، فلكاً هامشياً في فضائها؟
سورية اليوم تستنزف وتحرق لإجهاض أمة بأسرها. سورية هي عقدة المنشار. تآمر عليها الأجنبي الاستعماري، والإيراني الطائفي وأشياعه، وبعض طغاة عرب، ونظام سلطوي مجرم، ومعارضة ضعيفة مهلهلة، متعددة الولاءات، و”دولة إسلامية” مشبوهة، يقوم عليها مختلون عقليا. سورية اليوم أحد عناوين محنتنا كأمة، أين نحن في وضع المفعول به، لا الفاعل، يقرر لنا غيرنا مصائرنا، وعلى حساب دمائنا، في حين ينوب طغاتنا في أخذ وكالة جزئية في تنفيذ مخطط تدميرنا جميعا.