سوريا 2016: ساحة دامية لتغيير الأقطاب

يصف الكثيرون ما يجري في سوريا بأنه حرب عالمية ثالثة. ومنذ بداية عام 2016 صار واضحا أن هؤلاء لا يجانبون الصواب في هذا التوصيف، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار تغيّر أدوات الحروب التقليدية وأسلحتها واستراتيجياتها.

كانت قراءات، وباتت في عام 2016 حقائق، أن الساحة السورية هي ساحة للفرز والتغيير على المستوى الإقليمي والدولي، ساحة منحت دولا نفوذا غير مسبوق، وانتزعت من دول أخرى نفوذا تقليديا، وأصبحت النقطة التي بدأ فيها إنتاج أقطاب جديدة على المستوى الدولي والإقليمي، ومركز تحولات تؤثر على حاضر التوازن الدولي وستؤثر على مستقبله أيضا.

بعد نحو سنة من انطلاق الانتفاضة/ الثورة في سوريا، واستخدام النظام السوري أقصى درجات العنف، وإصراره على الحل العسكري الحربي، ورفضه أي “نصيحة” أو وساطة أو مبادرة من دول عربية أو من دول الجوار، في مقابل فتح المجال لروسيا وإيران لتتدخلا عسكريا ولوجستيّا وسياسيا، بدأ السلاح يتدفق على المعارضة وانتقلت الثورة إلى العسكرة.

مع اقتراب دخول الثورة السورية عامها السابع، لم تعد صعبة تسمية جملة من الدول الإقليمية التي استفادت من الحرب السورية لتُجري تحولات على المستوى الإقليمي لصالحها، أو الدول الكبرى لتُجري تحولات من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب، وعلى رأسها دوليّا روسيا والصين والولايات المتحدة، وإقليميا تركيا والسعودية وإيران وقطر وإسرائيل.

اتّضح أن للدول الإقليمية أهدافا مشتركة، وأخرى منفردة خاصة، فالهدف الجامع بينها هو إسقاط النظام السوري واستلام المعارضة المدعومة منها السلطة، ما يعني علاقات مستقبلية أفضل مع هذا الجار الإقليمي. أما الهدف الخاص بكل دولة فهو أن يكون لها تأثير أكبر في الإقليم، ونفوذ أوسع، أي فرض كل دولة نفسها كلاعب إقليمي يُحسب له حساب.

كانت قراءات وباتت في عام 2016 حقائق أن الساحة السورية هي ساحة للفرز والتغيير على المستوايين الإقليمي والدولي

ومع تطوّر الأوضاع اختلفت وسائل كل دولة في تعاملها مع هذه الحرب، فصارت تدعم فصائل عسكرية مختلفة عن تلك التي تدعمها الدول الأخرى، ما شتّت الدعم وهدر قوة المعارضة المسلحة ومزّقها وفرّقها، وتسبب بضعف كبير لها. مقابل هذا التدخل من الدول “الصديقة” للمعارضة، بدأت إيران تتدخل بطلب من النظام الذي قدّم تسهيلات لا سابق لها، وفتح الأبواب على مصراعيها لإيران لتعبث بالوضع السوري عسكريا وسياسيا وحتى بشريا، فأرسلت بداية خبراء عسكريين وضبّاطا كمستشارين ومدربين. ثم رفدت ذلك بمقاتلين ومرتزقة موالين لها ومؤتمرين بأمرها، من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان واليمن. وأسست ميليشيات طائفية عابرة للجنسيات والحدود هدفها منع سقوط النظام، وضمان نفوذ إيراني أكبر على القرار السياسي والعسكري السوري، وهو ما حصل بالفعل.

لا يقتصر الهدف الإيراني على مجرد نفوذ مؤقت، بل يمكن الجزم بأن سوريا هي أهم عقدة في المشروع الإيراني (الفارسي) القومي التوسعي (العالمي). وانهيار النفوذ الإيراني في سوريا يعني انهيار كل المشروع الإيراني، الذي يقضي بإحداث “هلال شيعي” من إيران حتى المتوسط.

ودوليا، كان عام 2016 أقسى وأكثر تعقيدا، حيث باتت سوريا ملعبا للدول العظمى والكبرى. فالحرب السورية التي اجتذبت تنظيمات متطرفة دولية، كانت محطّ تركيز أميركي، لكن السياسة الأميركية لم تكن واضحة المعالم في سوريا، فقد أمسكت العصا من المنتصف. وأمضت عام 2016 تُماطل وتلعب على التناقضات وعلى الوقت. ولم تُقدّم للمعارضة أي مساعدة تُذكر.

وكانت سياسة التدخل السلبي هذه جزءا من سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي لم يرد إهدار نقطة دم أميركية واحدة في هذه المنطقة، كما لم يرغب في صرف قرش واحد من أموال دافعي الضرائب على حرب خارجية، واستغل رغبة دول الخليج العربي في دعم المعارضة لتساهم في دفع كل تكاليف عملياته.

أما روسيا، فقد أتت فرصتها الذهبية عام 2016، بعد أن تدخلت عسكريا بشكل مباشر، ودعمت النظام، سياسيا واقتصاديا وعسكريا. حوّلت روسيا سوريا خلال عام 2016 عمليا إلى قاعدة عسكرية لها، لتسترجع بعض المكانة خاصة بعد تفاقم مشكلاتها مع الغرب في أوروبا الشرقية وعدم إشراكها في مشاريع خطوط نقل الغاز الخليجي لأوروبا وتنحيتها عن الحرب الليبية وإبعادها عن التغيرات السياسية التي شهدتها مصر وتونس وغيرهما من الدول العربية.

لم تُسفر الاجتماعات الكثيفة والمتكررة، السرية والعلنية، التي عُقدت بين الروس والأميركيين خلال عام 2016، عن أي نتيجة ملموسة، سوى المزيد من التصعيد في ميادين المعارك في مختلف أنحاء سوريا. وحصل الكثير من اللغط والأحاديث عن توافق أميركي-روسي لتسليم سوريا لروسيا، مقابل أن يبقى العراق ساحة نفوذ أميركية، لكن هذا التوصيف أو التقسيم سطحي، بل ربما كاريكاتيري، ذلك لأن سوريا نقطة استراتيجية للسياسة الروسية والأميركية على حد سواء، ومن الصعب أن يتخلى أحد الطرفين عنها للآخر بسهولة، دون أن يحقق له ذلك مصالح استراتيجية هامة بعيدة المدى.

في عام 2016 لم تعد الأزمة السورية أزمة سورية، لا من قريب ولا من بعيد، بل أصبحت ساحة تنافس دولي على تحقيق مصالح، وكسب مواقع متنوعة في شرق المتوسط. وفي نفس الوقت، يلاحظ أن عام 2016 حمل الكثير من التراجع في دور بعض الدول الإقليمية العربية، لمصلحة المنافسة بين الدول الكبرى (روسيا وأميركا)، ولمصلحة الدول الإقليمية غير العربية (تركيا وإيران). وصارت الأزمة السورية مأساة يتداولها الأقوى، إقليميا ودوليا، ويحاول كل طرف لي ذراع الطرف الآخر من خلالها، من دون الاهتمام بمصالح الشعب السوري، أو بنهر الدماء الذي يجري في سوريا، والاقتصاد الذي انهار، ومنظومة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية التي تم تدميرها، والصراع الطائفي الذي تم تعميقه.

من هذا المنظور، ولأن الصدام العسكري الجزئي أو الكلي بين القوتين الكبريين أمر مستبعد، لأن كلا من الطرفين يعرف الخسائر التي ستنجم عنه، يُخشى أن تبقى الأزمة السورية في عام 2017 في التداول، وضمن تكتيكات إزعاج الآخر وإقلاقه، ومنعه من تحقيق انتصارات جدية وحاسمة، وأن تبقى هذه الحرب للاستخدام طويل الأمد لتحقيق أهداف أخرى لا علاقة لها بتسوية سياسية سورية، ولا بتغيير نظام، ولا بوأد ثورة، بل لها علاقة بمصالح كبرى عابرة للدول، ربما سوريا أصغر ما في السلّة.

المصدر:صحيفة العرب

اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا

 

المقالات ذات الصلة

النشرة البريدية

اشترك ليصلك بالبريد الالكتروني كل جديد:

ابحثهنا



Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist