عندما كانت فصائل المعارضة السورية السنية المسلحة تعمل على محاولة توحيد صفوفها، في لعبة صراع البقاء لمواصلة فك الحصار عن حلب، بعد أن استعادت وحدات من الجيش السوري وحلفائه من الروس والإيرانيين والمليشيات الشيعية السيطرة على كامل منطقة الراموسة، وهي المنطقة التي تمكنت فصائل “فتح حلب” وفي مقدمتها قوات “جيش الفتح”، وفي طليعتها مقاتلو جبهة “فتح الشام” الشهر الماضي من اقتحامها، وفتح ثغرة باتجاه أحياء حلب الشرقية استهدفت غارة جوية أحد الاجتماعات وأعلن عن مقتل عدد من القيادات.
على خلاف حالة الناطق باسم تنظيم الدولة الاسلامية أبو محمد العدناني الذي تسابقت قوى عالمية وإقليمية وفصائل محلية لتبني عملية اغتياله، فإن عملية اغتيال “أبو عمر سراقب” القائد العام لجيش الفتح ورفاقه شهدت تنصلا وبراءة ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن قتله، الأمر الذي يشير إلى منهج يقوم على قتل فصائل المعارضة السنية بصمت، وعلى الرغم من قناعة وتأكيد فصائل المعارضة أن سراقب والمعروف بأبي هاجر الحمصي قتل مع آخرين إثر غارة لطيران التحالف الدولي على أحد مقرات جيش الفتح، في بلدة كفرناها بريف حلب الغربي، إلا أن الولايات المتحدة سارعت إلى نفي مسؤوليتها عن مقتل القائد العسكري لجيش الفتح.
منذ التدخل الروسي في أيلول/ سبتمبر 2015 بات الحفاظ على “سوريا مفيدة” مطلبا دوليا لا بديل عنه، فالولايات المتحدة اقتصرت جهودها على سرديتها الكونية المتعلقة بالحرب على الإرهاب ممثلا بتنظيم الدولة الإسلامية أولا وحلفاء القاعدة ثانيا، وقد قصرت دعمها على القوى المستعدة للانخراط في مشروعها ومهمتها المستحيلة، وأصبحت اللقاءات المنتظمة بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف تبحث عن أفضل الطرائف والسبل للتوصل إلى اتفاق حول التعاون العسكري ومسألة وقف الأعمال العدائية في أنحاء سوريا كافة، وهي مصطلحات تنطوي على رطانة بلاغية تعني إطلاق يد نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين ومليشياتهم بحصار المدن والضواحي السنيّة، وخنق المعارضة وإجبارها على الخضوع والاستسلام.
طرحت استراتيجية سوريا المفيدة من نظام الأسد وإيران وصادق عليها الروس، وهي تهدف إلى دعم وإسناد نظام الأسد في الحفاظ على سيطرته على دمشق، وخلق ممر آمن يربط المنطقة الساحلية السورية بمعاقل “حزب الله” في جنوب لبنان، عبر إحداث تغيرات ديمغرافية والقيام بعمليات تطهير مذهبي وعرقي، وهو الأمر الذي تولاه “حزب الله” في بعض المناطق على طول الحدود منذ تدخله وبرز خلال حملته عام 2013 في مدينة القصير ومنطقة القلمون، ومن خلال طرد مئات الآلاف من السنة من حمص.
في سياق تحقيق سوريا المفيدة جرت عمليات إخلاء الضواحي السنية المحاصرة المحيطة بمدينة دمشق تحت شعار الهدن ووقف الأعمال القتالية؛ ففي 27 آب/ أغسطس الماضي دخلت قوات الأسد والمليشيات الشيعية المساندة إلى داريا، وتم إخلاؤها من سكانها السنة بعد اتفاقات مهينة ومذلة ومباركة دولية، وبعدها بدأ النظام بالتفاوض على اتفاقيات مماثلة مع المناطق السنية المحاصرة الأخرى المحيطة بدمشق، من أجل حماية عاصمة سوريا المفيدة دمشق كما حدث مع سكان “معضمية الشام” في ريف دمشق، وكذلك حي “الوعر” في حمص، حيث يتم تطهير معظم هذه المناطق من السنة وترحيلهم إلى شمال سوريا، بانتظار تطبيق خطوط الاستراتيجية على بقايا السنة في الغوطة والزبداني ومضايا واليرموك، وغيرها من المناطق المحيطة بدمشق.
على الرغم من استحالة تحقيق بنود استراتيجية سوريا المفيدة وتعميمها على نطاق جغرافي ديمغرافي واسع نظرا للأغلبية السنية، إلا أن غياب دعم سني نوعي لفصائل المعارضة المسلحة سوف يعمل على خلق حالة سنية مهمشة قابلة للانفجار، قد تجد نفسها في صفوف تنظيم “الدولة الإسلامية” أو قاعدة “جبهة فتح الشام” بصيغتها الجديدة.
في سياق الربط المحكم بين “الإرهاب” الكوني و”الإسلام” السني، كتب على فصائل الثورة السورية المسلحة أن تتخلى عن هُويتها الدينية الإسلامية السنية، فعلى الرغم من تأكيدات الفصائل الإسلامية السنية المتواترة على تنوع المكونات الهوياتية الإيديولوجية والإثنية والدينية لسوريا، وتشديدها على صون حقوق الأقليات والمكونات المختلفة، إلا أن المجتمع الدولي يرفض تلك التأكيدات في الوقت ذاته الذي يسمح ويشجع ويدعم أي تشكيل أو فصيل سياسي أوعسكري سوري، يقوم على أسس هوياتية دينية مذهبية أو عرقية إثنية، بحيث يجري الاحتفاء والتمويل والتسليح لفصائل كردية أو مسيحية، ولأي مكون مستعد للتخلي عن هويته السنية والدخول في أفق هويات غيرية. وإذا كانت الولايات المتحدة خصوصا والأنظمة الغربية عموما متلبسة بسياسات الهوية منذ اللحظة الكولينيالية، فإن المقارية الروسية الأكثر فجاجة في الحالة السورية، قد أعلنت صراحة رفضها لدولة سنية ودعمها وإسنادها لدولة علوية أو أقليات غير سنية.
خلاصة القول، إن المقاربة الدولية للحل في سوريا يمكن أن تتلبس بأطروحات هوياتية متعددة، ليس ضمنها الهوية السنية التي باتت تكافئ الهويات الإرهابية؛ ففي سياق البحث المضني والشاق عن المعتدلين داخل فصائل الثورة السورية بحسب المواصفات الأمريكية والروسية، لم يعثر سدنة الهويات عن هويات سنية اعتدالية، حيث فشلت محاولات الحركات السنية في البرهنة على مفارقتها للصفة الإرهابية؛ ذلك أن لعبة الهوية والإرهاب تتبع المصالح الاستراتيجية ولا تنطوي على حسابات تصنيفبة خاطئة، وبهذ فإن سوريا المفيدة هي سوريا التي لا مكانة فيها للسنة.