النظام السوري بات في حاجة لاستعادة دوره الممانع الذي خبا خلال فترة الصراع وتوجه الجيش لقتال السوريين، بدل القيام بمهامه في حماية الحدود وللتلويح بقدرته على الردع والتصدي للتهديدات.
العرب
هوازن خداج
صراعات الأرض السورية المحروقة التي بلغت أوجها في الشمال بمعارك تصفية الحسابات بين الأطراف المتصادمة لرسم خارطة التموضع وتثبيت المواقع، رافقها في الآونة الأخيرة تصعيد مماثل في الجنوب السوري الذي دخل حيّز التجميد وفق مناطق “خفض التصعيد” روسية الصنع، دون أن يلبي مطلب تل أبيب في إبعاد ميليشيات إيران عن حدودها بمسافة 40 كيلومترا، ما وضع الجنوب على فوهة احتمالات التصعيد فيه لحسم الصراع وتصفية الحسابات المعلقة خصوصا بين إسرائيل وأمنها الحدودي وبين الانتشار الإيراني الذي ازداد تمكّنا في مواقع عديدة داخل منطقة الـ14 كيلومترا التي عرضتها روسيا على إسرائيل لجعل إيران بجوار إسرائيل.
رفض إسرائيل لحدود التماس المدرجة في المـذكرة الروسية الأميركية الأردنية المبرمة في عمّان بتاريخ 8 نوفمبر عام 2017 لدعم اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غربي سوريا قابله إصرار إيران على تحدي هذه الاتفاقية ونشر قواعد لها على طول خطوط التماس، وهو ما اعتبرته تل أبيب تهديدا مباشرا لها واتخـذته مبررا لشن المزيد من الغارات على مواقع عسكرية تابعة لقوات النظام السوري وحزب الله ومواقع إيرانية أخرى، في محاولة لإبعاد إيـران وردع سعيهـا الحثيث لتثبيت وجودها العسكري في سوريا الذي لا يقف عند إدارة ورفد المعارك الحالية التي تخوضها عبر ميليشيـاتها المختلفـة إلى جانب قـوات النظام السوري، بل كوجود استراتيجي دائم.
الغارات الإسرائيلية التي بلغت منذ العام 2013 ما يقارب 26 غارة اشتدت وتيرتها مع نهاية العام الماضي وانطلاق موكب التسوية وفرز المناطق بعد نهاية تنظيم داعش، لتتصعّد بعد زيارة بنيامين نتنياهو لموسكو في 29 يناير 2018 وبحثه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دور إسرائيل في التسوية القادمة والدور الإيراني في سوريا وتأثيره على الأمن القومي الإسرائيلي. وكان أكثرها دفعا باتجاه المواجهة مع إسرائيل إسقاط طائرة أف 16 أغارت على قاعدة “تي فور” الخاضعة لإدارة روسية – إيرانية وسط سوريا، وما تلاه من قصف لـ12 موقعا بينها أربعة أهداف إيرانية تعتبرها إيران حقا طبيعيا من حقوقها لترسيخ وجودها بعد التضحيات التي قدمتها دفاعا عن بقاء النظام السوري، وتعتبرها إسرائيل تجاوزا للخطوط الحمراء، وتؤكد من خلال قصفها أنها قادرة على المضي نحو حرب واسعة إذا تطلب الأمر.
التصدي السوري للطائرة الإسرائيلية بعد احتفاظ سوريا بحق الرد والتأني في اختيار الزمان والمكان المناسبين لفترة طويلة، وما تلاه من هجمات إسرائيلية، اقتصر في جولته الحالية على تقديم إنذارات الردع من قبل كافة الأطراف، وكان لخدمة جميع الأطراف. فالنظام السوري بات في حاجة لاستعادة دوره الممانع الذي خبا خلال فترة الصراع وتوجه الجيش لقتال السوريين، بدل القيام بمهامه في حماية الحدود وللتلويح بقدرته على الردع والتصدي للتهديدات.
إيران لا تبالي بحدود المنطقة المقترحة روسيا خصوصا بعد التدخل الروسي الذي أفقدها الكثير من أوراق اعتمادها في تحويلها سوريا إلى المحافظة 35 بحسب ما صرّحت به في العام 2013، وبعد أن صارت في حاجة لصياغة أسباب جديدة لبقائها بعد تلاشي الأهداف القديمة لتواجدها. فحماية المقامات فقدت جدواها مع تمدد النظام وفرض سيطرته على مساحات كبيرة من سوريا، والحرب ضد إرهاب داعش انتهت بنهاية داعش، ولا مانع لديها من افتعال حرب مع إسرائيل على الساحة السورية تستطيع من خلالها الإبقاء على تواجد ميليشياتها في سوريا وتحقيق مكاسب إضافية في السيطرة، وهو ما كان واضحا في إصرارها على تعزيز حضورها في الجنوب الغربي السوري وتثبيت قدراتها على تحدي أي اتفاق دولي بخصوص إخراجها من سوريا.
أما روسيا التي ما كان إسقاط طائرة أف 16 ليتم خارج موافقتها، فقد وجدت في حدث إسقاط الطائرة ردا على استهداف قواعدها العسكرية من قبل أسراب الدرونز وإسقاط مقاتلتها في إدلب في 3 فبراير الجاري على أيدي الفصائل المسلحة، والذي اتهمت به أميركا وحلفاؤها بمدّ الفصائل بأسلحة نوعية، مثلما رأت في الرد الإسرائيلي، الذي غضت الطرف عنه رغم قدرتها على التقاطه بواسطة منظومات الدفاع المتقدمة لديها في سوريا، جزءا من تحجيم الهيمنة الإيرانية وردعها، فإجبار إيران على الانصياع لعملية التسوية يصب في مصلحتها ويرفع عن عاتقها العمل وحدها في كبح التمدد الإيراني الذي بات يشكل إدانة لها في ما قدمته من تعهدات بإبعاد الميليشيات الإيرانية عن خطوط التماس مع إسرائيل.
الغارات الإسرائيلية لم تخرج حتى الآن عن حيّز الإنذارات القاسية لكل من سوريا وإيران وحزب الله، لكن ساحة الصراع السورية ما تزال مفتوحة، من كافة جوانبها، على الكثير من المتغيرات في معادلات توازن القوى المبنية على تحالفات إقليمية ودولية تقودها الضرورة التي لا تخفي ما يتخللها من عوامل الانفجار، بحيث تجعل الجميع على أهبة الاستعداد للتصعيد وللتهدئة في آن معا لتمرير ما يراد تمريره من خطوط حمراء مخضبة بدماء السوريين.