تزاحمت في عقلها الأسئلة والاحتمالات، ودخلت في بكاء مرير وهي تبحث في بناء «المول» ومحاله التجارية عن ابنتها ذات الخمس سنوات، وقالت إنها فرّت من بين يديها كما تفرّ الماء من الصنابير الحكومية. في الأسبوع الماضي كانت في قلب العاصمة دمشق عندما تركت طفلتها في المكان المخصص للعب الأطفال، وضاعت بين إغراءات الأزياء والمطاعم، ولم يشفع لتلك الأم «الشامية» محاولات الموظفين والموظفات في «شام ستي سنتر» الدمشقي، التخفيف عما يداهمها من تعذيب الضمير بعد اختفاء ابنتها الوحيدة، مع لحظة انقطاع الكهرباء في البناء الضخم، وتوقف كاميرات المراقبة عن العمل، ثم بدأت في متاهات البحث المضني، حتى موعد إقفال أبواب البناء ومحاله المشؤومة، والتي بدت للأم سعاد السبب في فقدان طفلتها لينا.
دارت على حواجز الأمن والمخابرات والعسكر، واتصلت بمخافر الشرطة، ووزّعت عليهم جميعاً نمرة هاتفها، وصفات ابنتها الجميلة، وما تذكرته من ألوان وحتى بقع ملابسها، وتقول «تركتها ساعة لتلهو في الألعاب، وكنت أنوي أن أرى الملابس الرخيصة فقط، دون أن أتأخر بسبب شغب الأطفال، لم أدر أنني سأفقدها، ابنتي اختطفت وهي تلعب، لا أعرف توقيت اختفائها ربما خطفوها منذ دقيقة فقط أو ربما منذ ساعة». كلمات كانت تهذي بها سعاد وتعيد سردها على مسامع كل مسلح، وأمام كل دشمة عسكرية، علّها تجد الفارس المترجل والمنقذ الفذ، كما يحلو لهم رسم صورهم أمام أذهان الأهالي، والتي كانت ستقبل سعاد بتجسيد هذه الصورة، لو أنهم قفزوا بنجاح فوق محنتها، وأعادوا لها الطفلة.
تلقّت الأم الملهوفة الكثير من الاتصالات المحاولة طمئنتها، بذكر حالات مماثلة من القبض على خاطفي الأطفال والموصوفين «بأولاد الحرام» والذين يقعون في نهاية المطاف بأيدي «رجالات الوطن الساهرين» على حفظ أمنه، لطالما هي في قلب العاصمة الحصينة، والتي تقطع شوارعها «اللجان الشعبية».
ولكن ما يدور في رأس سعاد سيناريو آخر وهي التي تعرف في قرارة نفسها، أن المذكورين ينافسون على المركز الأول في السرقات بعد أن افتعلوا موضة «الرهينة» مقابل المال، ولم تنس عناصر «الدفاع الوطني» الذين يبارزون في كثرتهم السجناء والمهجرين، ولا تخفى أفعال سرقة الذهب واختطاف الأطفال على عاقل.
اضطرت سعاد أن تغادر المكان الذي ربما لن تطأه قدمها بعد هذه الحادثة، وبدأت تفكر كيف سيستقبلها زوجها صاحب الشخصية الجادّة التي لا تكترث للعواطف والمجاملات الاجتماعية، غير تربيته العسكرية المجيدة التي تعلم منها الجلد والخشونة، كيف ستقول له «إني أضعت ابنتك بينما كنت أتسوق»، وكيف لتلك الكلمات أن تلفظ!!
وجدت نفسها الأم المتلعثمة وكأنها تتقدم نحو حبل المشنقة، ثم قاطع أفكارها هاتفها الذي رن، «إنه هو زوجها» ولعلّ الجميع قد سمع صراخه، وإقفال المكالمة المتشنجة، التي لم تكن سوى البداية.
عادت إلى منزلها تجرجر خطواتها مع ذاكرتها وكيف تركت ابنتها الوحيدة في الأرجوحة، وصعدت الدرج المتحرك، وبدأت مع وطأة قدمها لمحل الأزياء الأول بتناسي ما بات يعرف بين أهالي الشام، ممن يضطرون إلى رش الموت بالسكر، بوصف هذه الحرب «بالأزمة»، ودخلت بمصيبة لا تنتهي منها إلا لتتسلمها التي أكبر منها، وتاهت لأيام بين الدموع والأفكار والسواد.
وبعد مرور فجر عشر ليال قاتلة، رنّ هاتفها أخيراً، إنّه موظف «شام ستي سنتر» صوت متحشرج يقول: «مدام بنتك لابسة طقم أزرق، وعمرا بحدود خمس سنوات، واسمها لينا، لقيناها موجودة عنا على باب المول» لم تصدق سعاد، إلا بعد أن سمعت صوت لينا، ففتحت عيناها على اتساعهما، وكانت قد أصبحت على باب شقتها، وقطرات الماء في حلقها باتت مثل نار البركان، وخطاها تضاهي أبطال الجري، وصلت فعلاً إلى مشارف المول، «هي «لينا» تبدو من بعيد شاحبة وصفراء، لكنها لينا فعلاً، ويبدو لي أن العثور عليها بعد عشرة أيام من الضياع يفصح عن أن رجالات الوطن فشلوا في إدارة أزمتي، وكيف ينجحون لطالما أزمتهم عصية عليهم منذ أربع سنوات دونما اعتراف، «المهم أنني وجدت لينا» هكذا قالت أم لينا وهي تحدث نفسها.
تلمست سعاد تفاصيل جسد لينا الرقيق، وقسمات وجهها، وكانت كل حركة من الطفلة تتبعها سعاد بلمسة تتفحص فيها أنفاس لينا، ثم نظرت إلى يدها التي تحمل كيسا فيه ربطة من المال، وورقة كتب عليها، «شكرا، ولكن ابنتك أصبحت بكلية واحدة» كشفت تلك الأم المكلومة على بطن ابنتها، فما زال لحمها النازف طرياً، وبدا جرح العملية لن يشفى من ذاكرة سعاد ولا من بطن لينا.
هبة محمد – «القدس العربي»