أصبح مصطلح “الشرق الأوسط” مطاطاً بطريقة هائلة في هذه الآونة. ويتأصل الاسم في أعمال وزارة الخارجية البريطانية في القرن التاسع عشر؛ حيث قام البريطانيون بتقسيم المنطقة إلى الشرق الأدنى، وهو المنطقة الأقرب إلى المملكة المتحدة ومعظم شمال أفريقيا؛ والشرق الأقصى، الذي شكل شرق الهند البريطانية. والشرق الأوسط، الذي يقع بين الهند البريطانية والشرق الأدنى. وكان ذلك نموذجاً مفيداً لتنظيم وزارة الخارجية البريطانية، بقدر ما كان مهماً بالنسبة للمنطقة كذلك، بما أن البريطانيين -وإلى حد أقل الفرنسيين- لم يكتفوا بتعريف أسماء المنطقة فقط، وإنما قاموا بتعريف الدول التي ظهرت في الشرقين الأدنى والأقصى أيضاً.
اليوم، يشير مصطلح الشرق الأوسط، بالقدر الذي يعني فيه أي شيء الآن، إلى الدول التي تقطنها أغلبية مسلمة إلى الغرب من أفغانستان وعلى طول شاطئ شمال أفريقيا. وباستثناء تركيا وإيران، فإن المنطقة ذات أغلبية عربية، وغالبية سكانها من المسلمين. وفي داخل هذه المنطقة، أنشأ البريطانيون كيانات سياسية تم تشكيلها على غرار الدول القومية الأوروبية. وقد حوَّل البريطانيون شبه الجزيرة العربية، التي كانت تسكنها قبائل شكلت تحالفات معقدة، إلى المملكة العربية السعودية، وهي دولة تقوم على واحدة من هذه القبائل، آل سعود. كما أنشأت بريطانيا العراق وحولت مصر إلى ملكية موحدة. وبطريقة مستقلة تماماً عن بريطانيا، شكلت تركيا وإيران نفسيهما في شكل دول علمانية قومية.
صنع هذا التعريف اثنين من خطوط الصدع في الشرق الأوسط. وكان الأول قائماً بين العلمانية الأوروبية والإسلام. وعملت الحرب الباردة، عندما ورط السوفيات أنفسهم بعمق في المنطقة، على تسريع تشكل هذا الصدع. وكان أحد الأجزاء في المنطقة علمانياً واشتراكياً، والذي بُني حول الجيش. أما الجزء الآخر، الذي تركز بشكل خاص في شبه الجزيرة العربية، فكان إسلامياً، تقليدياً وملكياً. وكان هذا الجزء الأخير موالياً للغرب بشكل عام، بينما كان الجزء الأول -وخاصة الأجزاء العربية- موالياً للاتحاد السوفياتي. وكان الأمر أكثر تعقيداً من هذا، بطبيعة الحال، لكن هذا التمييز يزودنا بإطار معقول للبحث.
كان خط الصدع الثاني هو القائم بين الدول التي تم خلقها وبين الواقع الكامن في المنطقة. وفي حين كانت الدول في أوروبا تتفق عموماً مع تعريف الدول في القرن العشرين، فإن الدول التي أنشأها الأوروبيون في منطقة الشرق الأوسط لم تكن كذلك. كان هناك شيء في مستوى أدنى وفي مستوى أعلى. في المستوى الأدنى هناك القبائل، والعشائر، والجماعات العرقية التي لم تكن تشكل الدول المخترعة فقط، وإنما قسمتها الحدود أيضاً. وكان المستوى الأعلى هو الولاءات الدينية الواسعة للإسلام وللحركات الرئيسية في الإسلام، الشيعية والسنية، والتي زعمت للولاء قيمة عبر-وطنية. أضف إلى ذلك حركة القومية العربية التي بدأها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي جادل بأن الدول العربية يجب أن تتوحد في أمة عربية واحدة.
لذلك، يجب أن يبدأ أي فهم للشرق الأوسط مع خلق الجغرافيا السياسية الجديدة بعد الحرب العالمية الأولى، والتي تم فرضها من الأعلى على حقائق سياسية واجتماعية متفارقة تماماً، وشكلت محاولة لتحديد سلطة الجماعات الإقليمية والعرقية الأوسع. وكان الحل الذي تبعته العديد من الدول هو تبني العلمانية أو النزعة التقليدية، واستخدامهما كأدوات لإدارة كل من التجمعات دون الوطنية، ومزاعم التدين الأوسع إطاراً. وكانت إحدى النقاط التي عملت كعنصر توحيد هي إسرائيل التي عارضها الجميع. ولكن، حتى هناك كان ذلك وهماً أكثر من كونه واقعاً. فالدول العلمانية الاشتراكية، مثل مصر وسورية، عارضت إسرائيل بقوة. في حين أن الدول الملكية التقليدية، التي كانت مهددة من الدول العلمانية الاشتراكية، رأت في إسرائيل حليفاً.
الهزات الارتدادية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وما ترتب عنه من انهيار الدعم الذي كانت تتمتع به الدول العلمانية الاشتراكية، صعدت قوة الملَكيات التقليدية. ولم يكن ذلك مسألة مال فقط، ولو أن هذه الدول كانت تمتلك المال فعلاً. لقد كان مسألة قيم أيضاً. فقد فقدت الحركات الاشتراكية العلمانية دعمها ومصداقيتها معاً. وفقدت الحركات، مثل فتح، القائمة على العلمانية الاشتراكية -والدعم السوفياتي- قوتها نسبياً بالقياس إلى الجماعات الناشئة التي اعتنقت الإيديولوجية الوحيدة الباقية: الإسلام. وكانت هناك تيارات متقاطعة هائلة في هذه العملية، لكن واحداً من الأشياء التي يمكن تذكرها هو أن العديد من الدول الاشتراكية العلمانية التي كانت قد بدأت بوعد كبير استمرت في البقاء، ولو من دون قوة الوعد بحلول عالم جديد. وبقي الحكام مثل حسني مبارك في مصر، وبشار الأسد في سورية، وصدام حسين في العراق في أماكنهم. ومع أن تلك الحركة كانت قد حملت وعداً ذات مرة، حتى لو كان قادتها فاسدين، فإن الحركة أصبحت كلها فاسدة ببساطة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
منح انهيار الاتحاد السوفياتي نشاطاً وطاقة للإسلام، سواء لأن المجاهدين هزموا السوفيات في أفغانستان، أو لأن البديل عن الإسلام أصبح في حالة يرثى لها. وبالإضافة إلى ذلك، حدث الغزو العراقي للكويت بالتوازي مع الأيام الأخيرة للاتحاد السوفياتي. وكان كلا البلدين من بقايا ترتيبات الدبلوماسية البريطانية. وقد تدخلت الولايات المتحدة، التي ورثت الحكم البريطاني في المنطقة، من أجل حماية اختراع بريطاني آخر –العربية السعودية- ولتحرير الكويت من العراق. ومن وجهة نظر غربية، كان ذلك ضرورياً لجلب الاستقرار إلى المنطقة. وإذا ظهرت قوة هيمنة إقليمية وتُركت لتصعد من دون منازع ولم يوقفها أحد، فإن التداعيات يمكن أن تتراكم. وبدَت “عاصفة الصحراء” بسيطة ومنطقية، والتي جعمت التحالف المضاد للسوفيات مع الدول العربية.
فتحَت خبرة هزيمة السوفيات في أفغانستان وفقدان الأنظمة العلمانية شرعيتها الباب أمام عمليتين. في الأولى، أصبحت التجمعات دون الوطنية في المنطقة تنظر إلى الأنظمة القائمة على أنها قوية، وإنما غير مشروعة. وفي الثانية، جلبت الأحداث في أفغانستان فكرة خلق انبعاث إسلامي جامع، أو وحدة إسلامية، مرة أخرى إلى المقدمة. وفي العالم السني، الذي كسب الحرب في أفغانستان، جعلت دينامية إيران –التي اغتصبت موضع المتحدث السياسي-العسكري باسم الإسلام الراديكالي- دافع العمل واضحاً.
كانت هناك ثلاث مشكلات. أولاً، احتاج الراديكاليون إلى وضع الوحدة الإسلامية في سياق تاريخي. وكان ذلك السياق هو الخلافة العابرة للحدود الوطنية، والتي تشكل كياناً سياسياً مفرداً يمكن أن يمحو الدول القائمة، وأن يوائم الواقع السياسي مع الإسلام. كما عاد المتطرفون إلى استحضار الحروب الصليبية من أجل السياق التاريخي، وأصبحت الولايات المتحدة -التي يُنظر إليها على أنها القوة المسيحية الأكبر بعد حملتها في الكويت- هي الهدف. ثانياً، احتاج دعاة الوحدة الإسلامية إلى بيان أن الولايات المتحدة هشة، وأنها عدوة للإسلام أيضاً. ثالثاً، كان عليهم استخدام الجماعات دون الوطنية في بلدان عدة لبناء تحالفات من أجل الإطاحة بما يُنظر إليها على أنها أنظمة إسلامية فاسدة، في كلا العالمين العلماني والتقليدي.
كانت النتيجة هي تنظيم “القاعدة” وحملته التي شنها لإجبار الولايات المتحدة على تنفيذ غزو في العالم الإسلامي. وقد أرادت القاعدة أن تفعل ذلك عن طريق تنفيذ أعمال تبين هشاشة أميركا من جهة، والتي تجبر الولايات المتحدة على القيام بعمل من جهة أخرى. وإذا لم تتصرف الولايات المتحدة، فإن ذلك سيحسن صورة الضعف الأميركي؛ وإذا تصرفت فعلاً، فإن ذلك سيبين أنها صليبية ومعادية للإسلام. وسوف يشعل العمل الأميركي بدوره الثورات ضد الدول المسلمة الفاسقة والمنافقة، وسوف يزيح الحدود التي فرضها الأوروبيون ويمهد الطريق أمام الانتفاضات في عموم المنطقة. وكان المفتاح هو بيان ضعف الأنظمة وتواطؤها مع الأميركيين.
أدى هذا إلى هجمات 11/9. وفي المدى القصير، بدا أن العملية فشلت. وكان رد فعل الولايات المتحدة على الهجمات هائلاً، لكن أي انتفاضات لم تحدث في المنطقة، ولم تتم الإطاحة بأي نظام، وتعاونت العديد من الأنظمة المسلمة مع الأميركيين. وخلال ذلك الوقت، استطاع الأميركيون شن حرب عدوانية ضد تنظيم القاعدة وحلفائه من حركة طالبان. وفي تلك المرحلة الأولى، نجحت الولايات المتحدة. أما في المرحلة الثانية، فإن الولايات المتحدة، ورغبتها في إعادة تشكيل العراق وأفغانستان -وبلدان أخرى- داخلياً، جعلتها عالقة في الصراعات دون الوطنية. وقد تورط الأميركيون في خلق حلول تكتيكية أكثر العمل على مواجهة المشكلة الاستراتيجية المتمثلة في أن شن الحرب كان يتسبب في انهيار المؤسسات الوطنية في المنطقة.
بتدمير تنظيم القاعدة، خلق الأميركيون مشكلة أكبر في ثلاثة أجزاء: أولاً، أطلقوا المجموعات دون الوطنية من عقالها. ثانياً، خلقوا حيث قاتلوا فراغاً لم يقوموا بملئه. وأخيراً، من خلال إضعاف الحكومات وتمكين الجماعات دون الوطنية، صنعوا حجة قوية للخلافة باعتبارها المؤسسة الوحيدة التي يمكن أن تحكم العالم المسلم بفعالية، والأساس الوحيد لمقاومة الولايات المتحدة وحلفائها. وبعبارات أخرى، وحيث كان تنظيم القاعدة قد فشل في إشعال انتفاضة ضد الحكومات الفاسدة، تدبرت الولايات المتحدة أمر تدمير أو حل مجموعة من نفس تلك الحكومات، فاتحة الباب أمام الإسلام العابر للحدود الوطنية.
تم فهم الربيع العربي خطأ على أنه انتفاضة ليبرالية ديمقراطية مثل انتفاضة 1989 في أوروبا الشرقية. وأكثر من كل شيء آخر، كانت تلك انتفاضة قامت بها حركة الوحدة الإسلامية، والتي فشلت إلى حد كبير في إسقاط الأنظمة وورطت نظاماً واحداً، سورية، في حرب أهلية مطولة. ويضم ذلك الصراع في سورية مكوناً دون وطني –هو فصائل عدة منقسمة ضد بعضها بعضا، والتي تمنح تنظيم “الدولة الإسلامية” المشتق من تنظيم القاعدة، متسعاً للمناورة. كما قدم الربيع العربي أيضاً دفعة ثانية لمثال الخلافة. ولم يقتصر الأمر على أن عموم الإسلاميين يناضلون ضد الصليبيين الأميركيين، وإنما يقاتلون الزنادقة الشيعة -في خدمة الخلافة السنية- كذلك. وبذلك، حقق تنظيم “الدولة الإسلامية” الناتج الذي أراده تنظيم القاعدة في العام 2001، بعد 15 سنة تقريباً، بوجود حركات قادرة على القتال المستمر في بلدان مستمرة أخرى، بالإضافة إلى سورية والعراق.
الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة وتداعياتها
حول ذلك الوقت، أُجبرت الولايات المتحدة على تغيير استراتيجيتها. وقد تمكن الأميركيون من إصابة تنظيم القاعدة بالعطب وتدمير الجيش العراقي. لكن قدرة الولايات المتحدة على احتلال العراق أو أفغانستان وتحييدهما وجلب الهدوء إليهما كانت محدودة. وكانت الفصائلية نفسها التي جعلت من الممكن تحقيق الهدفين الأولين، هي التي جعلت تهدئة هذين البلدين مستحيلة. وأفضى العمل مع أحد الفرقاء إلى تنفير آخر في عملية موازنة مستمرة، والتي تركت قوات الولايات المتحدة مشكوفة أمام فصيل راغب في شن الحرب بسبب دعم الولايات المتحدة للفصيل الآخر. وفي سورية، حيث كانت الحكومة العلمانية تواجه طائفة من القوى العلمانية والدينية، وإنما غير المتطرفة، إلى جانب تنظيم “الدولة الإسلامية” الناشئ. ولم يتمكن الأميركيون من قولبة القوى المنقسمة إلى فصائل من غير مجموعة “الدولة الإسلامية” في قوة فعالة استراتيجياً. وبالإضافة إلى ذلك، لم تستطع الولايات المتحدة أن تصنع السلام مع حكومة الأسد بسبب سياساتها القمعية، ولم تستطع أن تواجه “الدولة الإسلامية” بالقوات المتوفرة.
بطريقة ما، تم إفراغ مركز الشرق الأوسط وتحويله إلى دوامة من القوى المتنافسة. وبين الحدودين اللبنانية والإيرانية، كشفت المنطقة النقاب عن أمرين: أولاً، بيّنت أن القوى ما دون الوطنية كانت هي الواقع الحقيقي للمنطقة. وثانياً، ومن خلال طمس الحدود السورية-العراقية، خلقت هذه القوى، وخاصة مجموعة “الدولة الإسلامية” عنصراً نووياً للخلافة -قوة عابرة للحدود القومية، أو بكلمات أكثر دقة: واحدة تسامت فوق الحدود.
أصبحت الاستراتيجية الأميركية تنويعات تصبح أكثر تعقيداً بلا انتهاء على سياسة الرئيس رونالد ريغان في الثمانينيات: اسمحوا للقوى المتحاربة بأن تتحارب. وقد حول تنظيم “الدولة الإسلامية” القتال إلى حرب على الهرطقة الشيعية وعلى الدول القومية الراسخة. وأصبحت المنطقة محاطة بأربع قوى رئيسية: إيران، العربية السعودية، إسرائيل وتركيا. وقاربت كل منها الوضع بشكل مختلف. ومع أن لدى كل واحدة من هذه الدول فصائلها الداخلية، فقد تمكنت كل منها من العمل رغم ذلك. وبعبارات أخرى، فإن ثلاثاً منها قوى غير عربية، وربما تكون القوة العربية الوحيدة من بينها، العربية السعودية، هي الأكثر قلقاً إزاء التهديدات الداخلية.
بالنسبة لإيران، يتمثل الخطر القادم من “الدولة الإسلامية” في أن المجموعة ربما تعيد خلق حكومة فعالة في بغداد، والتي يمكن أن تهدد إيران مرة أخرى. وبذلك، أدامت طهران دعمها للشيعة العراقيين ولحكومة الأسد، بينما تحاول الحد من قوة الأسد في الوقت نفسه.
وبالنسبة للعربية السعودية، التي تحالفت مع القوى السنية المتطرفة في الماضي، فإن تنظيم “الدولة الإسلامية” يشكل تهديداً وجودياً. وتنطوي دعوات التنظيم إلى قيام حركة إسلامية عابرة للحدود الوطنية على إمكانية أن تجد صدى لدى السعوديين الذين يعتنقون التقليد الوهابي. ويخشى السعوديون، إلى جانب بعض أعضاء مجلس التعاون الخليجي الآخرين والأردن، من نزعة “الدولة الإسلامية” العابرة للحدود، لكنهم يخشون أيضاً القوة الشيعية في العراق وسورية. وتحتاج الرياض إلى احتواء “الدولة الإسلامية” من دون التخلي عن الأرضية للشيعة.
بالنسبة للإسرائيليين، كان الوضع بمثابة امتياز وكان مرعباً في آن واحد. كان يشكل امتيازاً لأنه حرض أعداء إسرائيل ضد بعضهم بعضا. وكانت حكومة الأسد في السابق قد دعمت حزب الله ضد إسرائيل. ويشكل تنظيم “الدولة الإسلامية” تهديداً لإسرائيل على المدى الطويل. وطالما ظلت هذه القوى تتقاتل، فإن أمن إسرائيل سوف يتعزز. لكن المشكلة هي أن طرفاً ما سوف يكسب في سورية في نهاية المطاف، وربما تكون تلك القوة الجديدة أكبر خطراً على إسرائيل من أي شيء سبقها، خاصة في حال انتشار إيديولوجية “الدولة الإسلامية” إلى فلسطين. وفي نهاية المطاف، يبقى الأسد أقل خطورة من “الدولة الإسلامية”، وهو ما يبيِّن مدى سوء الخيارات الإسرائيلية على المدى الطويل.
إنهم الأتراك -أو الحكومة التركية على الأقل، والتي عانت انتكاسة في الانتخابات البرلمانية التي جرت مؤخراً- هم الذين يصعب فهمهم أكثر ما يكون في هذه المعادلة. إنهم عدائيون جداً تجاه حكومة الأسد -بقدر كبير حتى أنهم ينظرون إلى مجموعة “الدولة الإسلامية” على أنها أقل تهديداً. وهناك طريقتان لتفسير وجهة نظرهم: الأولى هي أنهم يتوقعون أن تُهزم جماعة “الدولة الإسلامية” على يد الولايات المتحدة في نهاية المطاف، وأن يعمل التدخل في سورية على ترسيخ النظام السياسي التركي. والثانية هي أنهم ربما يكونون أقل نفوراً من الآخرين في المنطقة من انتصار “الدولة الإسلامية”. وفي حين نفت الحكومة التركية بشدة تلك الاتهامات، فإن الإشاعات عن تقديمها الدعم إلى بعض فصائل “الدولة الإسلامية” على الأقل ما تزال مستمرة، والشكوك لدى العواصم الغربية قائمة بهذا الخصوص، وكانت قصة الشحنات المزعومة من الأسلحة التي أرسلتها منظمة الاستخبارات التركية إلى أطراف غير معروفة في سورية موضوعاً مهيمناً في الانتخابات التركية. وكل هذا غير مفهوم، إلا إذا كان الأتراك ينظرون إلى “الدولة الإسلامية” كحركة يمكن أن يسيطروا عليها في النهاية، والتي تمهد الطريق لتوسيع النفوذ التركي في المنطقة -أو إلا إذا كان الأتراك يعتقدون أن مواجهة مباشرة مع المجموعة يمكن أن تفضي إلى ضربة ارتدادية من “الدولة الإسلامية” في داخل تركيا نفسها.
دور “الدولة الإسلامية” في المنطقة
يشكل تنظيم “الدولة الإسلامية” استمراراً منطقياً لتنظيم القاعدة، الذي كان قد أثار إحساساً بالقوة الإسلامية، والذي أعاد تشكيل صورة الولايات المتحدة على أنها تشكل تهديداً للإسلام. وقد خلق تنظيم “الدولة الإسلامية” جيشاً وإطار عمل سياسياً من أجل استغلال الوضع الذي كان تنظيم القاعدة قد خلقه. وكانت عمليات تنظيم “الدولة الإسلامية” مثيرة حقاً للانتباه، والتي تراوحت بين الاستيلاء على الموصل وبين احتلال الرمادي وتدمر. وتثير مرونة مقاتلي “الدولة الإسلامية” في ميادين القتال والقدرة على توفير أعداد كبيرة من القوات لتشارك في الاشتباك السؤال عن المصدر الذي يتلقون منه الموارد والتدريب.
مع ذلك، ما يزال القسم الأكبر من مقاتلي “الدولة الإسلامية” محاصرين في داخل بؤرتهم الخاصة، محاطين بثلاث قوى معادية، وأحجية. إن هذه الدول المعادية تتعاون، لكنها تتنافس أيضاً. الإسرائيليون والسعوديون يتحدثون، وهذا ليس جديداً، لكن هناك حسّ بالإلحاح لدى الطرفين، والذين لم يكن موجوداً في الماضي. كما أن البرنامج النووي الإيراني هو أقل أهمية بالنسبة للأميركيين من التعاون مع إيران ضد “الدولة الإسلامية”. وقد كونت السعودية ودول الخليج الأخرى قدرات جوية يتم استخدامها في اليمن، والتي يمكن أن تستخدم في أماكن أخرى إذا لزم الأمر.
من المرجح أن تصمد تلك البؤرة، طالما ظل السعوديون قادرين على إدامة استقرارهم السياسي الداخلي. لكن تنظيم “الدولة الإسلامية” انتشر مسبقاً إلى خارج تلك البؤرة -حيث يعمل في ليبيا، على سبيل المثال. ويفترض الكثيرون أن هذه القوى في الخارج هي “دولة إسلامية” بالاسم فقط- أو فروع صاحبة امتياز العمل بماركة التنظيم، إذا شئت. لكن “الدولة الإسلامية” لا يتصرف مثل تنظيم القاعدة. إنه يريد بوضوح أن يخلق خلافة، ويجب عدم التخلي عن تلك الرغبة. وعلى أقل تقدير، فإنه يعمل بنوع السلطة والسيطرة المركزية، على المستوى الاستراتيجي، والذي يجعله أكثر فعالية بكثير من القوى الأخرى التي شاهدناها من غير الدول.
يبدو أن العلمانية في العالم الإسلامي قد أصبحت في وضع تراجع نهائي. وأصبحت مستويات الصراع في داخل ذلك العالم هما: في القمة، السنة في مقابل الشيعة؛ وفي القاعدة، بين فصائل معقدة ومتداخلة. وقد قبل العالم الغربي بالهيمنة على المنطقة من العثمانيين ومارسها على مدى قرن تقريباً. والآن، تفتقر القوة الغربية الرائدة إلى القوة اللازمة لتحييد العالم الإسلامي وتهدئته. ويبقى أمر تحييد وتهدئة مليار إنسان فوق قدرة أي طرف. وقد أخذ “الدولة الإسلامية” إيديولوجية تنظيم القاعدة، وهو يحاول إضفاء الطابع المؤسسي عليها. وتمتلك الدول المحيطة خيارات ورغبة محدودة في التعاون. وتفتقر القوة الدولية إلى الموارد لإلحاق الهزيمة بجماعة “الدولة الإسلامية” والسيطرة على التمرد الذي ربما يعقب ذلك. وتشعر دول أخرى، مثل روسيا، بالقلق من انتشار “الدولة الإسلامية” فيما بين مسلميها أنفسهم.
من المثير للاهتمام ملاحظة أن سقوط الاتحاد السوفياتي هو الذي حرك جملة الأحداث التي نشهدها الآن. كما أن من المثير للاهتمام أيضاً ملاحظة أن الهزيمة الظاهرية لتنظيم القاعدة فتحت الباب أمام خليفته المنطقي، “الدولة الإسلامية”. والسؤال الذي يطرح نفسه إذن، هو ما إذا كانت القوى الإقليمية الأربع الكبرى تستطيع، وتريد أن تسيطر على “الدولة الإسلامية”. وفي قلب ذلك السؤال يكمن الغموض حول ما يدور في عقل تركيا، خاصة في وقت تبدو فيه سلطة الرئيس رجب طيب إردوغان في طريقها إلى الانخفاض.
جورج فريدمان – (ستراتفور)
ترجمة: علاء الدين أبو زينة