روسيا القوية والمستنقع السوري

العبارات التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه أمام مجلس النواب (الدوما) استوقفت عن حق غير مراقب ومتابع. وليست دعوته، المرفوعة كشعار مرحلي واستراتيجي، إلى حق روسيا في أن تكون دولة قوية هو ما استدعى ويستدعي في حد ذاته إمعان النظر في نبرة الخطاب. والحق أن إشهار الدعوة البوتينية إلى «روسيا قوية» يأتي في مناخ من التوتر ومن انقطاع التفاهم مع الإدارة الأميركية على خلفية التطورات الميدانية للأزمة السورية خصوصاً في حلب، حيث تتقدم القوات النظامية للسيطرة على أحياء حلب الشرقية تحت مظلة غطاء من القصف الجوي العنيف.

هذا المناخ المضطرب الذي يلف العلاقة بين دولتين عظميين، وينعكس بالتالي على خريطة الاصطفافات الإقليمية والمحلية، هو ما يعطي خطاب بوتين فائضاً دلالياً يتعدّى لعبة الإنشاء البلاغي المعهود في أدبيات التعبئة والتبرير الدولية والقومية. وقد لا يكون مستغرباً، في سياق من هذا النوع، أن يستشهد بوتين بعبارات ألقاها رئيس الوزراء في زمن الأمبراطورية القيصرية في مطالع القرن الماضي، أي قبل سنوات من انتصار الثورة البلشفية واستتباب منظومة الحكم الشيوعي طوال سبعة عقود. ذلك أن منظومة الشيوعية السوفياتية وامبراطوريتها انهارتا وبات المتحسرون عليهما أشبه بالمقيمين داخل المتاحف.

لو استعاد أي مسؤول روسي قبل ثلاثة عقود عبارات العهد القيصري، كما فعل بوتين قبل أيام، لتعرّض لمحاكمة قاسية إيديولوجياً وقضائياً، بتهمة الخيانة العقائدية والدفاع عن نظام قديم وجائر. ويفهم من هذا أن لغة بوتين لا تترنم بأدبيات الحرب الباردة والصراع الحتمي بين نمطين من الحياة والانتاج والكينونة، الرأسمالية والشيوعية.

ولأن بوتين يعلم أن لغة ما بعد الحرب الباردة تقتضي تدوير زوايا كثيرة، فقد أكد في خطابه أن الحق في القوة الروسية هو أيضاً من حق كل الشعوب والدول وليس تعبيراً عن غرور دولة عظمى. فروسيا القوية لا تملي على أحد شيئاً ولا تتطلع إلى السيطرة، وفق عبارات بوتين. يجدر القول ههنا إن الحمقى وحدهم يصدقون أن نهاية الحرب الباردة تعني نهاية كل شيء، التاريخ والإيديولوجيات والطوباويات وفق ما هلّل المبشّرون والدعاة المتكاثرون كأسهم البورصة وسوق المضاربات المالية وتحول المثقفين إلى خبراء وأرباب حرف دعوية.

بكلام آخر، ينم خطاب بوتين الأخير عن قناعة ثابتة بطي صفحة الحرب الباردة والعودة إلى زمن «اللعبة الكبرى»، أي لعبة الأمم الكبيرة وتسابقها على المكانة والنفوذ والسيطرة. ومن مفارقات الأمور أن أركان الإدارة الأميركية، والأوروبية أحياناً واستطراداً، هم الذين يلوحون، كلما اضطربت العلاقة مع موسكو، بيقظة أشباح الحرب الباردة وتجديد شبابها.

روسيا البوتينية لا تخفي اندفاعتها إلى وصل ما انقطع في التاريخ الروسي القومي والامبراطوري. وينطبق هذا التوصيف أيضاً، وإن في قوالب مختلفة، على حال تركيا الأردوغانية وفوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي المديد، وسعيه إلى تجديد الصلة الرمزية وغير الرمزية مع التاريخ العثماني الأمبراطوري. يصرّ الأميركيون، والغربيون عموماً، خصوصاً في دوائر السلطة والتخطيط والقرار، على تسويق مخاوف من عودة روسيا إلى لغة ومنطق الحرب الباردة. هذا الإصرار يبدو دعوياً وغير واقعي، لكنه يتناسب مع الترسيمة الإيديولوجية السائدة في الزمن النيوليبرالي. فوفق هذه الترسيمة، تتخذ أهواء السيطرة والجشع والربح السريع صورة الواجب الأخلاقي الذي يقتضي الذهاب أبعد في القطيعة مع أمبراطورية الشر السوفياتية والشيوعية السابقة، بل حتى مع دولة الرعاية والتوزيع المتناسب، والعادل نسبياً.

هنا بيت القصيد. ونعني العلاقة بين الأخلاق والسياسة. فمن المعلوم والشائع أن صورة الاندفاعة الروسية، وغيرها ربما من الدول الصاعدة في العالم، إلى تحصيل القوة والمكانة داخل المشهد الدولي، أو العولمي إذا شئتم، تتعرض لمحاكمات ذات طابع أخلاقي تهدف إلى نزع البداهة عن أي محاولة لتثبيت قدر من الاستقلالية السياسية ومن اعتبار المصالح والحسابات الجيواستراتيجية. كل تعديل في وضعية القطبية الدولية الواحدة والمنتصرة منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار المنظومة السوفياتية سيطلق العنان بالضرورة لأحكام قيمة تظهر الخصم أو المتفلت من السيطرة في صورة الشرير والشاذ أو الضال عن السويّة الكونية. في المقابل تظهر القوة المسيطرة عالمياً وأحادياً في صورة الوصفة الناجحة للتناغم والتوازن المنشود بين نصاب الأخلاق ونصاب السياسة. صورة روسيا اليوم، وتدخّلاتها في غير مكان، لا تشذ عن هذه الترسيمة السائدة. فسواء كان الأمر يتعلق بأوكرانيا أم بالأزمة السورية الفاحشة العبثية والفظاعة، تبدو روسيا في مخيلة المستأنسين بالقدر العولمي الراهن على درجة عالية من الفظاظة والتسلّطية. والفظاظة هذه يجري دائماً تقديمها على أنها من رذائل سلطة تقوم جوهرياً على البطش والغلظة والمحسوبية والنزعة السلطانية مما يعزز الاعتقاد، في المقابل، بأن فظاظة التدخلات الغربية تبقى عرضية وهامشية حتى عندما تقود إلى تدمير بلدان ومجتمعات وأنسجة وطنية بكاملها. في الحالة الأولى، الروسية مثلاً لا حصراً، تكون المحاسبة جاهزة وسابقة على الفعل السياسي الذي لا يفعل سوى إشهار الطبيعة الشريرة للسلطة. في الحالة الثانية، الغربية والأطلسية عموماً، تصبح المحاسبة ضرباً من الرعونة والتحامل والتطاول على أفضل وصفة منحها القدر التاريخي للبشر.

هذا ما يظهر حتى الآن وبقوة إذا ما وضعنا الفظاظتين، الروسية والغربية، في مرآة المأساة السورية المتطاولة. لقد ميّز عالم الاجتماع ماكس فيبر بين أخلاق أو خُلُقية القناعة الراسخة وبين خُلُقية المسؤولية. الحالة الأولى هي من نصيب الوعاظ الأخلاقيين والدعاة الذين لا يعنيهم ما قد يترتب على أفعالهم الصادرة عن يقينيات معتقدهم. وهذا ما يتقاسمه النظام ومعظم المعارضة السورية. الحالة الثانية هي من نصيب رجال السياسة الذين يقدّرون إلى هذا الحد أو ذاك نتائج وتبعات أفعالهم وأفعال غيرهم. وهذا ما يزعمه اللاعبون الدوليون. فغداة التدخل الروسي العسكري المباشر في المعمعة السورية، قبل عام، اعتبر قادة أميركيون أن روسيا ستغرق في المستنقع السوري كما حصل من قبل في أفغانستان. على أن الحديث عن مستنقع يفترض القدرة على تحويل الواقع إلى مستنقع وتحويل القابلية السورية، أو غيرها، للاستنقاع إلى واقع مرير. وهذا ما حصل. سورية تنتظر تسوية أخرى بين السياسة والأخلاق.

الحياة – حسن شامي

اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا

 

المقالات ذات الصلة

النشرة البريدية

اشترك ليصلك بالبريد الالكتروني كل جديد:

ابحثهنا



Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist