منذ أن بدأت الحرب في سوريا وأبناؤه يتجرعون كؤوس القهر والألم.. من قصف وحصار وتهجير وواقع معيشيٍّ بائس، دفعهم للرضوخ لحلولٍ لم يتمنوا يوماً اختيارها.
سامر رجلٌ نحيلٌ هزيل البنية شاحب الوجه، في العقد الرابع من عمره، من أبناء مدينة حلب، متزوج ولديه خمسة أولاد، دفعته الحرب في سوريا وتهجيره من مدينته إلى اتخاذ قرار الهجرة غير الشرعية إلى أوربا.
جمع عائلته وطرح الموضوع عليهم ليستشيرهم، قرروا بعدها خوض تلك المغامرة الخطرة، تواصل مع عدد من المهربين وبعد عناء حان موعد رحلتهم.
حدثنا سامر عن يوم الرحيل وعيناه تفيض ألماً ، ارتجف صوته، وصمت قليلاً ليستعيد توازنه ثم قال: “جمعنا المهرب في منزل صغير كنا أكثر من ثلاثين شخص بين رجال ونساء وأطفال.. بعدها نقلنا بسيارات لمكان الانطلاق، لما وصلنا وشفت البلم اللي بدنا نطلع فيه حسيت بخوف شديد وردت أرجع وشيل فكرة الهجرة من بالي.. بس كان فات الأوان”.
صعد سامر وعائلته وجميع الركاب إلى “البلم” اقترب المهرب منهم وطلب منهم التخلص من كل مايحملونه ماعدا زجاجة ماء وبعض الأطعمة القليلة.
كان يفتش كل واحد على حدى ليتأكد من عدم وجود أجهزة الكترونية أو جوالات حتى لا تلتقط رادارات خفر السواحل تردداتها.
جاء دور سامر بالتفتيش فإذا به يحمل جهاز قياس نسبة السكر لابنته المريضة وبعض الأدوية، فطلب منه المهرب التخلص منها زعماً منه أن الرادار يمكن أن يلتقط إشارة من الجهاز، حاول سامر إقناعه بأنه جهاز عادي ولا يمكنه التخلص منه حتى يطمئن على وضع ابنته طول فترة الرحلة، وافق المهرب على مضض، وبعد أن انطلقت السفينة أمسك المهرب بحقيبة الجهاز ورماها بالبحر، مع الأدوية.
جن جنون سامر وانقض عليه وأخذ يلكمه، إلى أن تدخل بعض الركاب وهدأوا من روعه، وبعد ساعاتٍ اشتدّ ظلام الليل وأخذ الخوف والذعر يتملك الركاب .
نظر سامر إلى ابنته ليلى وهي ترتجف من الخوف والشحوب غطى وجهها الطفولي البريء، ضمها إلى صدره “بابا ليلى لاتخافي ياعمري كم ساعة منوصل بالسلامة ومنخلص من هالكابوس.. ليلى أبوس أيدك خليكي صاحية”
ابتسمت ليلى ابتسامةً صفراء وأغمضت عينيها..
ظلّ سامرٌ وزوجته طوال الوقت يراقبون حالة ابنتهما ليلى والخوف والألم يعتصر قلبيهما، حتى شعر سامر بتوقف أنفاسها، هزها بقوة محاولاً أن يوقظها، صرخ بأعلى صوته: “ليلى فيقي أبوس ايدك فيقي بابا ياعمري لاتموتي.. أنا قتلتك.. ياريتني متت قبل ما فكرت هاجر”
ماتت ليلى بين أحضان والديها، بسبب تهّور المهرب الأخرق الذي رمى جهاز كشف السكر مع جرعة الأدوية، ماتت من شدة خوفها ولم يستطع قلبها الصغير تحمّل أهوال تلك الرحلة القاتلة.
بقي جسد ليلى يوماً كاملاً في حضن أبيها وسط البحر، ولا أمل في الوصول إلى شاطئ يستقبلهم لعلّه يستطيع أن يدفن ابنته على أي أرضٍ المهم أن يكرم جسدها بدفنه.
تعثرت الرحلة وبقي القارب في عرض البحر تحت حر الشمس وبدأت تخرج من جثة ليلى روائح كريهة دفعت الركاب للطلب من والدها التخلص من الجثة..
فما كان من الأب اليائس إلا أن قرر رمي جسد ابنته بالبحر، خوفاً على زوجته وباقي أبنائه ، فما كابداه في هذين اليومين يحتاج ألف عامٍ ليستطيعوا نسيانه، وهل حقاً سيستطيعون نسيان ماحدث!!
يقول سامر والدموع تدفق من عينيه كموج هائج لا يستطيع كبحه “رميت بنتي بالبحر بإيدي.. وصار جسدها طعام للسمك.. ذاكرتي من هداك اليوم مشوهة.. طعم الحياة مر علقم..
كان كل همي أهرب بعيلتي لمكان آمن أقدر أمنلهم فيه مستقبلهم وشوفهم سعداء.. ياريتني متت قبل ماخوض هالرحلة.. لانه انا هلئ ميت ولو شايفيني حي”
بعد أيام وصل سامر وعائلته إلى بر الأمان.. وهم إلى الآن وبعد أربع سنوات من هذه الفاجعة مايزالون يعانون مرارة تلك الرحلة المشؤومة، يكررون محاولاتهم الفاشلة في تجاوز ماحدث..
لعل قصة موت الطفلة ليلى هي الأقسى.. لكن أمثالها من الأطفال كُثر.. منهم من مات غرقاً.. ومنهم من وصل بر الأمان إلا أنه فقد أحد أفراد عائلته أو كلهم.
هي رحلة يتخذ فيها المهاجر قرار الموت.. يكتب من خلالها نهايةً شبه حتمية.. القاتل الأول فيها نظام مجرمٌ قتل شعبه.. أو دفعهم للموت.
قصة خبرية/ إيمان هاشم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع