صادف يوم أمس الـ 25 من نيسان/أبريل الذكرى التاسعة لتحرير مدينة جسر الشغور من براثن وأنياب جنود نظام الأسد الذين اعتادوا التنكيل بالناس وقتلهم وتهجيرهم بلا رأفة أو شفقة أو ذرّة من رحمة.
هي المرة الأولى التي أبت فيها الكلمات البقاء في صدري لوصف معاناة لابدّ من تذكّرها في كل ذكرى لتحرير هذه المدينة الجميلة بالرغم من الذكريات الموجعة لي فيها. تلك المدينة الجميلة التي لطالما أطلقت عليها اسم “مدينة الضباب” تشبيهًا لها بمدينة “لندن” رغم الفرق الشاسع بينهما ، إلّا أنّ الضباب كان يعانقها طيلة أيام فصلي الشتاء والربيع تقريبًا.
مازلت أذكر مستشفى جسر الشغور الضخم الذي حوّله جنود الأسد من مكان يعنى بإنقاذ أرواح النّاس إلى مكان بات ذكره يشعر المخاطب بخوف وقشعريرة لما فيها من قهر وذلّ وهوان. كيف لا وقد حوّل جيش نظام الأسد ذلك المستشفى إلى معتقل سجن فيه مئات وربّما آلاف الأبرياء وعذبهم بأبشع الطرق قبل أن ينقلهم إلى مراكز أفرع النظام الأمنية الأخرى في المحافظة، فمنهم من كتبت له حياة جديدة بالخروج ومنهم من قضى نحبه ومنهم من مازال هناك في غياهب السجون لا يعلم بحاله إلا الله.
مازلت أذكر تلك الزنزانة الصغيرة في طابق تحت الأرض ضمن تلك المستشفى، حيث كان سقفها على مستوى الشارع الذي كان بالكاد يظهر في نافذة صغيرة لا يتعدّى عرضها عدّة سانتيمرات. كانت غرفة صغيرة ، إلّا أنّ عدد من كان فيها تخطّى الـ 15 شخصًا معظمهم لم يتجاوزوا الـخامسة والعشرين من عمرهم ، بل بعضهم لم يبلغ السابعة عشرة بعد، والجميع لا تهمة محددة له ولا يعرف لماذا هو في هذا المكان.
ساعات طويلة مرت كلّ واحدة منها كعقد كامل من السنين، فأعتقد جازمًا أنّ الوقت يتغير وفق الظروف التي نعيشها فأحيانا يمر كلمح البصر وأحيانا تصبح الدقيقة بزمن ساعة والساعة بزمن يوم واليوم كأسبوع وقس على ذلك. بعد تلك الساعات الطوال ، طلبني أحد المسؤولين هناك قرابة الساعة الثانية عشرة منتصف الليل للتحقيق ، وبعد أن أغمضوا عينيّ وقيدوا ذراعي قادني أحدهم إلى غرفة في الطابق الثاني أو الثالث حيث دفعني داخل الغرفة وأغلق الباب.
لم أعرف كم شخصًا في تلك الغرفة ، ولكن رحب أحدهم بي قائلًا باللغة الإنكليزية الضعيفة إلى حدّ ما “You are welcome to Alamn Alaskari in Jesr Alshoghur” ، أهلًا وسهلًا بك في الأمن العسكري في جسر الشغور، وظننت نفسي حينها في مركز الأمن العسكري في المدينة لأنّ أحدًا منّا لم يكن يعرف أين نحن بالتحديد.
استمرت عملية التحقيق معي هناك قرابة الساعتين ، ربّما أكثر أو أقلّ بقليل، حيث كانت الأسئلة برمّتها حول التظاهرات المناهضة لحكومة النّظام سواء في قريتي أو في مدينة إدلب أو في مدينة اللاذقية حيث كنت أدرس.
بعد استكمال التحقيق ، أعادني شخص أظنّه برتبة مساعد في بداية العقد الثالث من عمره إلى تلك الزنزانة وعلى طول الطريق ما بين غرفة ذلك الضابط وتلك الزنزانة كان يطلق عليّ لقب “مستر إنكلش” لأنّه يعلم أنّني كنت أدرس في قسم اللغة الإنكليزية، ومثله بدأ عدّة عناصر آخرون يطلقون عليّ ذلك اللقب ، منهم من كان يظنّه لقبي المتعارف ومنهم من كان يعرف أنّه بسبب دراستي وكان ينعتي به كنوع من الاستهزاء.
كان أصعب ما في أمر اعتقالي هناك أنّ أمي وخالي و عمّي حاولوا السؤال عنّي هناك وقد سمعتهم من تلك النافذة الصغيرة، فمن منّا لا يستطيع تمييز صوت أمّه، إلّا أنّ ردّ العناصر المتواجدين على الباب “لا أحد عندنا بهذا الاسم… اذهبوا واسألوا عنه في مكان آخر”، وبعد عدّة محاولات وافق الضابط المسؤول على السماح لهم بزيارتي لبضع دقائق فقط.
أمضيت في تلك الزنزانة الصغيرة عدّة أيام قبل أن يتمّ نقلنا في شاحنة صغيرة يمتلكها أحد المدنيين المعتقلين معنا بعد أنّ وضعوا عليها جادرًا أزرق اللون كي لا يعرفها أحد أثناء سيرها بنا من مستشفى جسر الشغور إلى مركز الأمن العسكريّ الواقع في المربّع الأمني القريب من فندق الكارلتون في مدينة إدلب.
ومازلت أذكر بشكل جيّد كيف أمضيت الطريق من جسر الشغور حتّى إدلب وأنا أحاول قطع الكلبشات البلاستيكية التي جعلتني أشعر أنّ الطريق من جسر الشغور إلى إدلب أبعد منه إلى روما أو ربّما أبعد ، ولاسيما أنّ الدم يسيل من كلتا يديّ لأنّ العنصر الذي كان يضع “الكلبشات” في أيدينا قبل نقلنا إلى تلك الشاحنة،أسرف في شدّها عنوة، بعد أن طلب منه أحد العناصر ألّا يسرف في شدّ تلك الكلبشات في أيدينا حين وصوله إليّ لتقييد يديّ.
كان جلّ أحلامي في تلك اللحظات أن نصل إلى حيث يريدون نقلنا، فقط ليقطعوا تلك القيود التي أحسستها تقيد روحي وعروق جسدي كلّها حتّى بدأت أشعر أنّني لم أعد أستطيع التقاط أنفاسي وشعرت أنّ يديّ توشكان على النهاية.
وليس هذا كلّ شيء في الذاكرة، ففي يوم ذكرى تحرير المدينة، وعلى وجه الخصوص تلك المستشفى، لابدّ من استذكار صديقي منذ أيام الطفولة وفي أيام الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية “حسام” الذي قدّم روحه كغيره من عشرات الأبطال في سبيل تحرير المدينة من دنس الطاغية وأعوانهم.
ومع ذلك تبقى ذكرياتي الجميلة في تلك المدينة كالوقوف عند الصومة واحتساء فنجان قهوة من إعداد “أبو سميح” أو تناول رغيف من خبز الصاج المشهور على مستوى المنطقة كلّها، والأصدقاء الكثر الذين لطالما افتخرت كوني أحد أصدقائهم ومازلت.
قصة خبرية / محمد المعري