ما بين الذّكريات وأمل العودة، يواسي السوريون أنفسهم ببعض الأماني الّتي تبعث الأمل في قلوبهم المنكسرة, الّتي ترمّمها بعض الذكريات هنا وهناك.
“عامر” ذو الثلاثة والثلاثين عاماّ بوجه أعياه التّعب وبدت عليه خطوط الهمّ وألم الفراق لمسقط رأسه دمشق الياسمين, يصف شوقه لشوارع وحارات دمشق القديمة وراح يسرد تفاصيل دمشق كأنّه يصف حبيبة التي اعتاد عشقها الممنوع.
يقول “عامر”: وبدت عليه ملامح الفرح عند استعادة الذكريات كشغفنا باستحضار ذكرياتنا أيام دراستنا في الإعدادية ، الثانوية أو الجامعية “كان بيتي قريباً من باب توما, ذلك الصرح الحضاريّ الّذي مثلّ في حقبة زمنية كوكب الزّهرة يدور حول دمشق, حيث يرمز كلّ باب من أبواب دمشق كوكباً من الكواكب”.
يدور “عامر” بعينيه وكأنّه يبحث من ذكرى يبدأ بها حديثاً.. اختلط الشّوق فيه فتاه بين تلك الذكريات “في بداية المرحلة الثانوية بدأت العمل مع صديق والدي أبو معتز في محل للنحاسيات, وهي مهنة عريقة في دمشق, يعود تاريخها لأكثر من ثلاثمائة عام, اختلط فيها الفن العربي بالعثمانيّ فشكّلا تحفاً فنيّة فائقة الجمال, “نظر بحرقة إلى يديه اللتين بدا عليهن تعب السنين وأردف قائلاً ” كم أشتاق للعمل في النحاس مرة أخرى، ولكن للأسف الظرف هنا في إدلب لا يسمح لي إلاّ بالعمل كعامل مرة في البناء ومرة في سوق الهال وغيره”
كان لابدّ لي من زيارة سوق الحميدية الذي يبدو كعقد مرصّع بالألماس ومحاله متراصّة كتراصّ جنود يرحّبون بزائر رفيع الطراز فأنهي استقبالهم لي بساحة يعشقها اليمام عند مدخل الجامع الأموي, الذي يمتد بجذوره التاريخية وجماله الأخاذ وسكينته مع تكبيرات الأذان.
أكمل عامر غوصه في ذكرياته بعد أن سألني إن كنت قد جربت يوماً ما الأركيلة وكأس الشاي الحلو في قهوة النوفرة, “تنزوي خلف الجامع قهوة النّوفرة كحبيبة تحتمي بحبيبها من قادم الأيام”, والتي لن أنسى طعم شايها الحلو بعكس مذاق حياتنا الآن.
أكمل وفي صوته غصّة المجروح “حفرت على جدرانها حروف اسمي وكأنّ شيئاً ما في داخلي نبّأني بعذاب الفراق, فعلّها تذكرني كما أذكرها بعد طول الغياب”.
درست الثانوية الصّناعية وبعدها أكملت دراستي في المعهد الصناعي قسم الكهرباء, وكنت أخطّط بعد إنهاء دراستي أن أفتتح محلاً لتصليح أدوات الكهرباء إلاّ أنّ الكهرباء أصبحت حلماً للسوريين.
أجبرت بسبب الحرب على مغادرة دمشق, إلاّ أنّ روحي أبت المغادرة فأصبحت جسداً هنا وروحاً هناك.
أعمل ما يتيسّر لي من أعمال وأغلبها بأجور قليلة لا تكفيني وعائلتي لتأمين أقل احتياجاتنا, وخصوصاً بعد أن زاد علينا صاحب البيت أجرته لتصبح ما يقارب 50 دولاراً في الشّهر, بعد أن كانت ثلاثون ألف ليرة سورية, فمصائب قوم عند قوم فوائد.
تزوجت وأصبح عندي طفلين لم يعرفا عبق دمشق ولا رائحة الياسمين، نعيش في قبو في حيّ الشيخ تلت وكلنا أمل أنّ العودة قريبة.
عندما سألته ألهذا الحدّ تشتاق لدمشق !!!!؟
أجابني وقد اغرورقت عيناه بالدّموع ” أشتاقها كشوق المؤمن لصلاة الفجر وكشوق الّصباح لصوت فيروز, فلا بيروت اقترنت باسم فيروز ولا فيروز نفسها فيروز بلا دمشق”
بحسب إحصاءات دولية فقد وصل عدد المهجّرين من دمشق أكثر من 45 ألف مهجّر, كلّ منهم له ذكريات وأحلام أبت الرّحيل ولا تزال هناك تنتظر عند مداخل دمشق وأبوابها السّبعة.
محمد المعري / المركز الصحفي السوري