مالك التريكي(القدس العربي)
ينسب إلى تاليران، وزير خارجية نابليون، أنه قال إن الحرب من جليل الخطر بمكان بحيث لا يجوز إيكال أمرها إلى الجنرالات والعساكر. ولأن هذه حكمة معبرة عن حقيقة تاريخية متجددة على مر العصور، فإن العقلاء يذكّرون بها كلما بدر من قادة الجيوش ما ينذر بخروج الطموحات العسكرية عن نطاق السيطرة المدنية أو إفلات الخطط الحربية خارج حدود المعقول السياسي. ولهذا فقد لجأ رئيس وزراء فرنسا أريستيد بريان إلى تذكير نظيره البريطاني لويد جورج بهذه الحقيقة أثناء الحرب العالمية الأولى. كما كانت هذه الحقيقة إحدى أهم العبر التي استخلصها شارل ديغول في الكتاب الذي نشره عام 1924عن أسباب انهيار ألمانيا غير المتوقع عام 1918.
كان من أسباب الهزيمة أن ألمانيا لم تلتزم بالقاعدة الذهبية المتمثلة في وجوب خضوع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية. فقد جنح الجنرال فون شليفن والأميرال فون تيربيتز والمارشال هيندنبورغ إلى التفرد بالقرار دون الرجوع إلى أهل السياسة. والأخطر أن هذا الخطأ القاتل، أي انقسام الرأي وعسكرة القرار، قد استحكم منذ ما قبل البداية، حيث تجاهلت القيادة العسكرية إنذار الدبلوماسية الألمانية لها بأن اجتياح بلجيكا سوف يرغم بريطانيا على دخول الحرب. ولهذا كان العنوان الذي وسم به ديغول كتابه هو: «الشقاق لدى العدوّ».
كان ذلك أول كتب ديغول، فقد نشر عدة كتب بعد ذلك. إذ كان كاتبا بمثلما كان قائدا عسكريا وزعيما سياسيا من الطراز الأول. نشأ على كلاسيكيات الأدب الفرنسي، وكان شديد الغرام بشاتوبريان. وقد كان كتّاب من معاصري ديغول، من أمثال فرانسوا مورياك وألبير كامو وبول كلوديل وأندري مالرو، يعدّونه كاتبا مجيدا.
وسبق للصحافي الراحل جان لاكوتير أن قال إن فرنسا أنجبت زعيمين سياسيين يتميزان بـ«جمال القلم»، هما ديغول وميتران، على أن صاحب الموهبة الأدبية هو ديغول. إذ إن في كتاباته، وخاصة في «مذكرات الحرب»، صفحات أخاذة لا بد أن يتضمنها أي مصنف عن تاريخ الأدب الفرنسي في القرن العشرين. أما الناقد جان ـ لوك باري فيرى أن ديغول هو آخر كتّاب فرنسا الكبار!
كان من أسباب الهزيمة أن ألمانيا لم تلتزم بالقاعدة الذهبية المتمثلة في وجوب خضوع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية
وبمثلما أن الحرب من الخطورة بحيث لا يصح إسلام أمرها إلا إلى السياسيين، فإنها ما أن تضع أوزارها حتى تصبح من شأن المؤرخين. هذا على المستوى المعرفي. أما على المستوى الشعبي، فإن ذكرى الحروب عادة ما ترسخ في الوجدان العام بفعل الفن. فقد أثبتت الفعاليات المرتبطة بذكرى الحرب العالمية الأولى، من مائوية البداية قبل أربعة أعوام إلى مائوية الهدنة الأحد الماضي، أن هذه الحرب تحتل مكانة بارزة في الوعي العام الغربي. إذ تنتشر في أوروبا المعالم والتماثيل المتصلة بالحرب العظمى وأبطالها وضحاياها. ولا تكاد تخلو محطة قطار كبرى أو جامعة كبرى في بريطانيا، مثلا، من نصب تذكاري للضحايا من العمال والطلاب الذين التحقوا بجبهات القتال. ومن أهم العوامل التي جعلت الحرب العظمى تنتقش في الوعي العام الغربي أنها اقترنت بالشعراء والفنانين الذين قاتلوا فيها وصوروا آلامها وخلدوا ذكرى ضحاياها. إذ إن جميع البريطانيين والكنديين يعرفون بعضا من الشعراء الذين يسمون شعراء الحرب، من أمثال سيغفريد ساسون وويلفريد أووين(الذي قتل قبل أسبوع من نهاية الحرب!) والشاعر الكندي جون ماكراي. وليس هناك طفل في المدرسة في بريطانيا أو كندا إلا وهو عارف بقصيدة جون ماكراي «في ساحات الوغى بفلاندرز».
أما في فرنسا، فإن كثيرا من كتّاب تلك الحقبة قد خاضوا الحرب وكتبوا عنها شهادات متنوعة، حتى أن معظم جوائز الغونكور في تلك السنوات قد أسندت لروايات من هذا الصنف الذي كان يسمى «أدب الخنادق». كان هنالك جيل من الكتّاب الشهود على الحرب من أمثال غيوم أبولينير، وبول كلوديل، وشارل بيغي، وبيار لوتي، وأندري موروا، والفيلسوف آلان والشاعر لوي آراغون. ثم تجدد الاهتمام بالحرب أوائل الثلاثينيات على أيدي كتّاب كبار من أمثال رومان رولان، وجول رومان وجان جيونو. إلا أن ذلك قد كان من منظور معاد للحروب ومتشائم بمصير الغرب إن هو لم يستطع إلى «السلام الدائم» سبيلا.
*نقلاً عن : القدس العربي