الجو بارد لدرجة أنه استطاع تجميد الشعور و الأحلام والآمال والأفكار وحتى الدموع، في تلك القرية التي تدعى دابق في ريف أعزاز، لم نجد بيتاً للأجار و لا حتى خيمة نأوي إليها .
الثامنة صباحاً بينما كنت أراجع دروسي متحمسةً لدخول الإمتحان و إذ بمجموعة من صديقاتي يقتربن مني، سألت إحداهن لما تدرسين انجليزي الآن ؟
_أحضر لدخول الإمتحان
_لكن الامتحان لغة عربية
_كيف ..؟؟!! تسارعت دقات قلبي و فتحت دفتري لألقي نظرة على برنامج الإمتحان لأرى أنها محقة الامتحان لغة عربية، يالله مالذي يحدث لي .
لقد سهرت الليل وانا أحضر للإنجليزية ولن أستطيع تقديم إمتحان العربية فقد فاتني الكثير إثر غيابي 15 يوماً بعد حادثة قصف بيتنا و النزوح، تشوشت أفكاري و تهت، حتى أيقظتني يد إحدى صديقاتي تلوح أمام عيني .. أين ذهبت ؟ نظرت لهن وشعرت بغصة في حلقي وكدت أن أبكي فأسعفتني ضحكاتهن وكلماتهن الساخرة .. لا تبكي يا بيبي، لن يؤثر هذا الامتحان بالشهادة .
دخلنا الامتحان وزعت الأوراق ،أمسكت بقلمي و يدي ترتجف كتبت اسمي و جلست أنتظر نفاد الوقت لم أقرأ الأسئلة حتى، كنت منهكة و أعاني الصداع بسبب عدم النوم، غفوت و أنا جالسة ليراودني نفس الكابوس الذي يتكرر كلما أغمضت عيني قصف نيران أشلاء ودماء .
على الرغم من أننا سلمنا من القصف الذي استهدف منزلنا إلا أنني أرى أهلي أشلاء في كل مرة أغمض فيها عيني، أستيقظ على صوت المراقب يكلمني _ سدرة سدرة أجيبي .. فأفزع بشهقة _نعم يا أستاذ، لينفجر الجميع ضحكاً .. لقد كانت نائمة، تمنيت في تلك اللحظة فقط أن يتساءلوا في أنفسهم عن السبب لكنها بقيت أمنية .
في ذات اليوم اشتد القصف ليلاً ليشمل جميع مناطق الريف الغربي فقد كان في مناطق دون أخرى لنجد أن ما هربنا منه قبل أيام لحق بنا، نزلوا أهلي للقبو وقاية من القصف، أما أنا فبقيت في غرفتي أحضر للإمتحان لن أدع الخوف يسيطر عليّ ويسلبني أحلامي ويفشلني كما فعل اليوم .
مع كل جملة أقرأها أنطق الشهادة، فالموت متوقع بأي لحظة، كنت متعبة ومنهكة جسدياً ونفسياً، عمل طوال النهار و دراسة طوال الليل، غفوت على طاولة الدراسة ليراودني نفس الكابوس، أستيقظ بفزع على صوت انفجار، بصدمة أنظر حولي ما الأمر هل مازلت على قيد الحياة .. !!! لم أعد أميز الحقيقة من الكابوس .
انتهت تلك الليلة لأصبح على خبر إغلاق المدارس حتى إشعار آخر بسبب القصف
مرت أيام و مازلت استيقظ صباحاً لأنتظر أتوكار المدرسة لكنه لم يأتي .
الوضع يزداد سوءً حتى أصبح الريف الغربي كله منطقة عسكرية خالية من المدنيين و مازلنا نحن نختبئ في القبو، أملاً بعدم النزوح مرة أخرى حتى انقطعت الأخبار لا كهرباء ولا نت، فقط قصف شديد طائرات راجمات مدافع، آخر ليلة اشتباكات التي أنذرتنا باقتراب الخطر .
صباحاً خرج أبي ليستطلع الأخبار ويتفاجئ بأن النظام بات يبعد عنا كيلو متر فقط، عاد أبي مسرعاً وإذ به يرى أرتال الأحرار ينسحبون من المنطقة و هو يدخلها ينادون له و ينذرونه بأن النظام يسيطر على المنطقة فلم يلتفت فمازال أهله بالداخل، وصل أبي لتقر عينيه برؤيتنا بخير، ينادي علينا بأعلى صوت وقد أحمر وجهه و جحظت عيناه .
اخرجوا بسرعة بدون حمل إي شيء، خرجنا هذه المرة بدون الالتفات للوراء، بدون حمل حتى الذكريات لنفتح باب المنزل الخارجي و إذ بصاروخ يسقط على المنزل المجاور و تتطاير الشظايا فوقنا وبيننا، لندخل من جديد حتى تغرب الطائرة، حينها حملت أمي بعض الأمتعة بينما كنت أنظر لأحلامي التي علقتها على جدران غرفتي مرسومة على أوراق ملونة ومزينة أردت نزعها لآخذها معي وإذ بأهلي ينادوني لنخرج ونركب في السيارة لتكون وجهتنا قرية تل عقبرين حيث يسكن عمي، تتساقط القذائف خلفنا و أمامنا كلهم خائفون بينما أنا كنت أفكر بتلك الأوراق أو الأحلام .
وصلنا لبيت عمي الذي احتوى ثمان عائلات يتشاركون طعامهم وشرابهم رعبهم وتشتتهم، دعائهم وتسبيحهم و دموعهم، بقينا معهم 16 يوماً والمناطق تسقط واحدة تلو الأخرى حتى وصل القصف للمناطق الحدودية وباتت المخيمات تحترق بأهلها، ثم حملنا أمتعتنا لنتجه نحو المجهول .
استمرت رحلتنا 10 ساعات وأنا أنظر من النافذة لا أرى إلا خيام وقهر ومعاناة، شعرت بأن التفكير بأحلامي بات جرماً، مازالت أمي تحت القصف بقيت مع أختي في إدلب ريثما تلد ربما لا أراهما من جديد .
تعود بي الذاكرة لليلة تهجيري من مدينتي حلب قبل ثلاث سنوات حينها تركت أبي وأخي تحت القصف والآن أمي وأختي تحت القصف، وصلنا ليلاً لقرية دابق في ريف أعزاز حيث لا مؤوى .
بتنا عند أقربائنا في غرفة لا تكاد تسعهم
صباحاً تبدأ رحلة البحث عن مؤوى
لم يبقى باباً إلا وطرقناه “هل يوجد بيت أو غرفة للأجار ” بعضهم كان يغلق بوجوهنا والبعض يطردنا، رغم أننا لم نطلب شيء بدون مقابل .
كان بودي أن أسأل أين توجد ثانوية لكن الوضع أسوء من أن أفكر بذلك، تسلمنا خيمة بعد ثلاثة أيام لا أعلم لما أصابتني هستيريا ضحك عندما دخلت الخيمة لكنه لم يكن ضحك فرح بل كان ضحك ممزوج بقهر وعجز وكأنني أستهزء بمأساتي، ثم جلست أفكر كيف تتسع خيمة ضيقة لأحلام لا حدود لها .
في اليوم التالي كنت جالسة في الخيمة مع زوجة أخي وأخي الصغير، بينما أبي وأخي يبحثون عن عمل و مأوى و إذ برجل يفتح باب الخيمة و يمد رأسه، بدأنا بالصراخ فأدار ظهره و قال أنا المسؤول عن المخيم ..
_كيف تتجرأ وتفتح دون استئذان
أجابني بكل وقاحة
_أنا أطّلع متى شئت . ثم ذهب
لبست نقابي و جلبابي وخرجت من الخيمة، ودموعي تنهمر وإذ بامرأة توقفني
_اهدئي يا ابنتي إنه المسؤول سيطردكم من المخيم إن أزعجتيه .
أجبتها بصوت مرتجف وأنفاس متسارعة
_كيف..!!؟ كيف ذلك يا خالة أليس للبيوت حرمة..!!؟؟
تجيبني ببمسة ساخرة ممزوجة بالقهر
_تلك البيوت يا ابنتي أما الخيام فلا حرمة لها، مرت بضع أيام حتى تركنا المخيم رغم غلاء أجار البيوت إلا أن الشرف والكرامة أغلا .
نظرة أخيرة للوراء .. خيام بيضاء يغطيها وحل وتراب كأنها أكفان تضيق بأهلها لتدفنهم أحياء، بمعاناتهم وقهرهم، مازال أكثر من 100 ألف إنسان يعيش معاناة البرد و الحر الفقر والحرمان الذل والقهر في مخيمات الشمال السوري، ترى كم من أحلام ناطحت السحاب ولامست النجوم ثم وئدت في تلك الخيام ..؟؟
سيدرة الفردوسي
المركز الصحفي السوري