لا يخفى أن إيران تسعى بشكل حثيث لتعزيز نفوذها الإقليمي لأنها تملك الطموح والإرادة والإمكانات، لكن المثير في الأمر أن البحث عن “دور” و”نفوذ” يتركز بشكل خاص على الثغور العربية، وبشكل لا يخدم علاقات حسن الجوار ولا يساهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي، في حين لم نرَ أي تحرك إيراني مناهض لإسرائيل أو داعم للحكومة الفلسطينية أو حتى لسوريا عندما تعرضت لاعتداءات من قبل إسرائيل. ويمكن الإضافة هنا أن الدعم الإيراني للميليشيات والتنظيمات السياسية والمسلحة في المنطقة العربية دائما ما كان انتقائيا تحكمه دوافع مصلحية ضيقة ومشبوهة ساهمت بشكل واضح وكبير في زيادة حدة الاحتقان الطائفي والمذهبي في المنطقة، وعززت الانقسام والفرقة بين هذه التنظيمات دون الدولاتية والدولة الأم والوطن العربي الأكبر. والأمثلة على ذلك كثيرة، كما في الدعم الإيراني لحزب الله في لبنان، وانتشار الميليشيات المسلحة في العراق، والزحف الحوثي في اليمن، وشق الصف الفلسطيني من خلال دعم حماس.
ويبدو جليا أن إيران تعتبر الجناح الشرقي للعالم العربي نطاقًا استراتيجيًا مهمًا لأمنها القومي، وهكذا كانت الحال منذ إنشاء الدولة الصفوية في بداية القرن السادس عشر الميلادي، وسنحت الفرصة لتحقيق هذا “الحلم الإيراني” بعد سقوط نظام صدام حسين وتعزز بشكل واضح بعد الانسحاب الأميركي من العراق، حيث سعت إيران إلى ملء الفراغ السياسي والأمني، ما جعل طهران صاحبة النفوذ الأبرز في العراق في الوقت الحاضر. وهي تحاول الآن فعل نفس الشيء في سوريا تحسبا لسقوط نظام بشار الأسد، وفي لبنان خلّق الدعم الإيراني اللامحدود لحزب الله دولة داخل الدولة اللبنانية، الأمر الذي عزز الانقسام اللبناني وأضعف الوفاق الوطني، فأصبح لبنان بلا رئيس منذ عدة شهور. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أصبحت صنعاء العاصمة العربية الرابعة التي تقع في فلك النفوذ الإيراني، وتم ذلك بشكل مسرحي وغير متوقع.
الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، بل تشهد المنطقة تسارعات دراماتيكية تدور رحاها حول المحادثات النووية بين إيران ومجموعة 5الاثنين 2-3-20151. وهو ما أربك المشهد السياسي الإقليمي، لأنه أنبئ عن تحول في أولويات وتوجهات السياسة الخارجية الأميركية، بما يحمله ذلك من مضامين متعددة حول النوايا الأميركية وأثر ما تؤول إليه هذه المفاوضات على التوازنات الإقليمية والدور المستقبلي لإيران في المنطقة العربية. وغني عن القول: إن إيران يهمّها بشكل كبير أن تحيّد واشنطن، إن لم تستطع كسبها، ما يساعدها على تعظيم دورها في المنطقة العربية بمباركة أميركية، في المقابل فإن واشنطن تسعى إلى كسب أصدقاء جدد أو تحويل الأعداء إلى أصدقاء بدلا من ديمومة العداء مع إيران، لأسباب تتعلق بتوجهات السياسة الخارجية الأميركية الحالية التي تركز على احتواء الصين وروسيا، وعدم الرغبة في تحمل تكلفة التدخل في منطقة الشرق الأوسط لحل أزماته المعقدة والتي يبدو أن حلها دون استخدام القوة العسكرية غير ممكن. هنا يمكن الحديث عن “تقاطع المصالح” بين واشنطن وطهران، في وقت نلحظ غيابا عربيا واضحا، أو عجزا عن التأثير في توجهات السياسة الإقليمية بشكل يحافظ على مصالح الدول العربية ويساهم في تعزيز الأمن القومي العربي.
الدول العربية لا تستطيع مواجهة الخطر الإيراني الداهم، الذي أضحى ينتشر كالسرطان في الجسد العربي، ما شكل تهديدا صريحا للمصالح العليا للأمة العربية، ما لم تتبنَّ استراتيجية أشمل، قائمة على أسس ومعطيات تتجاوز ما أفرزته الثورات العربية من تقاطعات وتحالفات، تتلخص ملامحها في النقاط التالية:
أولا: إصلاح العلاقة المتوترة مع تيارات الإسلام السياسي المعتدلة، بما في ذلك التيارات السلفية وجماعة الإخوان المسلمين، لأنها أكثر التيارات السياسية تنظيما وتأثيرا، ولأن الحوار معها والوصول لحلول وسطية سوف يخفف من حالة “الاستقطاب السياسي” السائدة في المجتمعات العربية وما نتج عن ذلك من عنف، وسيساهم في تشكيل “شريط سني” يأتي انعكاسا للوضع الديموغرافي القائم في العالم العربي، لا يكون هدفه إقصاء الأقليات المذهبية والعرقية بقدر ما يسعى إلى تفويت الفرصة على القوى الخارجية، الإقليمية والأجنبية، التي تسخر الورقة المذهبية والدينية لتعزيز نفوذها في الثغور العربية، في الوقت ذاته الذي سيؤدي ذلك إلى عزل وتهميش قوى التطرف والعنف والإرهاب في المنطقة. لكن أي تقارب مع قوى الإسلام السياسي هذه يستوجب بطبيعة الحال نبذها مسبقا للعنف والتأكيد على تبني العمل السياسي السلمي. ففي اليمن على سبيل المثال، كان حزب التجمع اليمني للإصلاح من أركان العملية السياسية السلمية، وساهم في الاستقرار السياسي هناك قبل حصول الاجتياح الحوثي المؤدلج، وهناك الكثير من رموز الإسلام السياسي في العالم العربي التي تؤمن بالاعتدال والعمل السلمي، والتي يتوجب احتواؤها بدلا من إقصائها.
ثانيا: تشكيل محور إقليمي عربي يشمل تركيا. ومثل هذا التوجه يتطلب بعض السياسات التصحيحية، بحيث يتم تقريب وجهات النظر بين تركيا وبعض الدول العربية، يتم من خلاله تجاوز تداعيات الثورات العربية، والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والعمل على خلق علاقات تعاونية أساسها التوافق وليس الاختلاف.
ثالثا: مواصلة تعزيز العلاقة مع بعض الدول الغربية المتفهمة للهموم العربية (مثل فرنسا)، التي تتبنى سياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يجعلها أكثر تفهما وأكبر قدرة على التماهي مع توجهات السياسة العربية، وما ينتج عنه من سياسات إقليمية أشمل.
* مستشار الأمين العام لجامعة الدول العربية للشؤون السياسية
د . خالد بن نايف الهباس – الشرق الاوسط