تكشف الأحداث الجارية في الشمال السوري، مع التقدم الذي أحرزته مجموعات مسلحة معارضة متعددة الأيديولوجيات على الأرض، عن تحول في المشهد السوري عموما قد يكون استراتيجيا. وتأتي هذه التطورات قبيل انعقاد الجولة الثالثة من مفاوضات جنيف، مما يوحي بانعكاسها لا محالة على سير تلك المفاوضات.
تسجل المعارضة المسلحة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، بمختلف فصائلها وأيديولوجياتها تقدّما على الأرض، بدأ الأسبوع الماضي، بسيطرتها على مدينة “جسر الشغور” الاستراتيجية جنوب غربي إدلب، التي تشكل نقطة إمداد أساسية لقوات النظام السوري المتبقية في ريف إدلب، وتقع على الطريق الواصل إلى مدينة اللاذقية.
ويعيد محللون هذا التقدّم المحقّق على الأرض إلى “اتفاق حصل بين السعودية وقطر وتركيا”، الداعمة للمعارضة، يهدف إلى “أن يصل النظام إلى مفاوضات جنيف وهو في موقع ضعيف”، خاصة وأن تقارير استخباراتية تتحدّث عن انحسار الدعم الإيراني له.
وتواصل كتائب المعارضة المسلّحة تحقيق تقدّمها، شمالا وجنوبا، وقد نجحت في السيطرة على أبرز القواعد العسكرية المتبقية للنظام السوري من خلال عمليات وصفها محلّلون بأنها واحدة من أكبر العمليات العسكرية في سوريا منذ اندلاع الصراع.
وقال الخبير في الشؤون السورية تشارلز ليستر إن “سقوط جسر الشغور قد يمهد لهجوم على اللاذقية. وقد يكون ذلك أمر خطير جدا بالنسبة إلى النظام”. وأضاف أنه “لا يجب أن ينظر إلى هذه العملية على أنها هجوم بسيط، بل على أنها تندرج ضمن استراتيجية أكثر اتساعا”.
وباتت مدينة إدلب التي سيطرت عليها الكتائب المعارضة في 28 مارس مركز المحافظة الثاني الذي يخرج عن سيطرة النظام بعد الرقة (شمال)، معقل تنظيم داعش.
واللافت للنظر في هذه العملية العسكرية واسعة النطاق، والتي حملت اسم “معركة النصر”، أنها جمعت مقاتلين من عدة جماعات مسلّحة رغم الاختلاف الكبير في أيديولوجياتها وقوتها، بدءا من جبهة النصرة وصولا إلى أصغر فصيل تابع للجيش السوري الحر.
وكان “جيش الفتح”، وهو تحالف يضم جبهة النصرة، ذراع القاعدة في سوريا وفصائل إسلامية مقاتلة أبرزها حركة أحرار الشام، أعلنوا الخميس بدء “معركة النصر”. ومنذ أيام، نفذت قوات الجيش السوري الحر، بدورها، هجمات فرعية على القوات الحكومية عبر إدلب، بما في ذلك هجمات شنتها الفرقة 101 في الجيش السوري الحر إلى الجنوب من أريحا. وتمكنت عناصر الجيش الحر من قطع الطريق السريع “أم 4″ المؤدي إلى أريحا، على الأقل بشكل مؤقت، وقد استولوا على تلة حماه التي تطل على الطريق. وإذا تمكن المسلّحون من السيطرة على هذا الموقع، فسوف يتم عزل القوات الموالية للنظام في أقصى الشرق.
وتمثل التطورات العسكرية الأخيرة تحولا مهما في مجرى الأحداث، فقد وصل مقاتلو المعارضة لأول مرة إلى مشارف جبال الساحل السوري، حيث معقل آل الأسد في محافظة اللاذقية؛ كما قاموا بتوحيد جهودهم والسير نحو حلب، حيث تتركّز مجموعة هامة من مجموعات المعارضة المسلّحة.
ونقلت وسائل إعلامية عن أبويوسف مهاجر، أحد قادة حركة أحرار الشام وجيش الفتح، أن “هناك بنك أهداف لدى المعارضة، من بينها التوجه لحلب، شمال البلاد، لدعم الفصائل المعارضة هناك وتخليص الأجزاء المتبقية من حلب وريفها من سيطرة النظام”.
ويعكس القصف المتواصل من قوات النظام على هذه المدينة خطورة سيطرة المعارضة المسلّحة عليها بالنسبة له. وتسيطر قوات النظام على الشطر الغربي من حلب، في حين تسيطر المعارضة على جزئها الشرقي.
ويتملك الخوف سكان حلب على وقع استمرار المعارك الدامية، ويتوقّعون أن تسقط المدينة تحت سيطرة المعارضة المسلّحة، شأنها شأن جسر الشغور وإدلب. وكانت عدّة فصائل عسكرية معارضة في حلب وريفها أعلنت في بيان عن تشكيل “غرفة عمليات فتح” بهدف توحيد الجهود. وتضم الغرفة العسكرية كلا من الجبهة الشامية وفيلق الشام وأحرار الشام وجيش الإسلام.
وتشير السيطرة على إدلب إلى هيمنة قوى المعارضة في هذه المحافظة وتهدد بتقويض جهود الحكومة في مناطق الشمال، خاصة حلب الحاضنة للعديد من هذه الفصائل المسلحة، والتي تعد أبرز مثال على التعقيد الذي تشهده الساحة السورية عموما.
لذلك فإنّ محاولة فهم المشهد السوري الحالي، تقتضي بالضرورة الإحاطة بجلّ تفاصيل المشهد الحلبي الذي من شأنه أن يلخص عمق الأزمة وتعقيداتها، وسيكون له دور مؤثّر في مصير الأحداث القادمة، إذا نجحت الكتائب المقاتلة في بسط سيطرتها على كامل حلب.
تعقيدات المشهد الحلبي
تكشف دراسة للباحث السوري عارف حاج يوسف، صدرت مؤخرا بعنوان “خريطة الفصائل المسلحة في حلب”، ملامح المشهد الحلبي من بوابة تعدد الفصائل المسلحة المتواجدة في المحافظة الاستراتيجية.
وتشير الدراسة إلى أنّ النظام السوري من جهة والقاعدة وإيران وحزب الله وتنظيم الإخوان المسلمين من جهة أخرى، لعبوا دورا مركزيا في دفع الثورة نحو التطيّف الواسع.
ولأنّ فهم المشهد الحلبي يلخص فهم المشهد السوري عموما، تقدّم الدراسة بحثا دقيقا عن أبرز الفصائل المقاتلة في مدينة حلب وريفها، وهي كالآتي:
◄ لواء التوحيد: تم تشكيله في الثامن عشر من يوليو 2012 في ريف حلب، وضمّ كتائب في مناطق مختلفة من سوريا، قاتل داعش في مراحل لاحقة لاندلاع الثورة، وامتلك مؤسسة أمنية شكّلَت أواخر عام 2013، تتكون من شرطة عسكرية وفرع أمن الطرق وفرع أمن الصناعة.
◄ لواء عاصفة الشمال: تأسس في أعزاز، وخاض معركة تحريرها، وشن عليه تنظيم داعش حملة عسكرية، ما أضعفه، واضطره للانصهار ضمن تشكيلات عسكرية أخرى.
◄ حركة أحرار الشام الإسلامية: تمخّضت عن اتحاد أربعة فصائل إسلامية سورية، وهي “كتائب أحرار الشام” و”حركة الفجر الإسلامية” و”الطليعة الإسلامية” و”كتائب الإيمان”. وعند اندلاع المعركة ضدّ تنظيم داعش في حلب وريفها وقفت هذه المجموعة على الحياد من النزاع الدائر، واصفة إياه بـ”الفتنة بين المسلمين”.
◄ لواء أحرار سوريا: تكوّن في أغسطس 2012 من ثلاث كتائب رئيسية هي “كتيبة شهداء عندان”، و”كتيبة أحرار عندان” و”كتيبة شهداء الجبل”، وشارك في الحرب ضد داعش. وبعد تشكيله، انضم لواء أحرار سوريا إلى هيكلية الجيش السّوري الحر، التي أسّسها العقيد المنشق رياض الأسعد في يوليو 2011، ودعم من مصادر خارجية.
◄ ألوية صقور الشام: تشكّلت في عام 2011، وتتواجد بشكل خاص في ريف إدلب، حيث ترجع أصول غالبية مقاتليها إلى مدينة إدلب وريفها. تزعم أنها معتدلة، وهي مقرّبة من جماعة الإخوان المسلمين.
◄ جبهة النصرة: شكلت في أوائل عام 2012، وأعلنت عن نفسها لاحقا كذراع لتنظيم القاعدة في سوريا. وكان ظهورها الأول في حلب في يوليو 2012، وضمّت النصرة في صفوفها عددا كبيرا من المقاتلين الأجانب المدرّبين. ودفعت شراسة الحرب التي شنّتها ضد قوات النظام، الكثير من الشباب الحلبيين إلى ترك ألويتهم في الجيش الحر أو الكتائب الإسلامية الأخرى والانضمام إليها، حيثُ كانت توفّر لهم تعويضا ماديا جيدا، وعدم انقطاع الدعم العسكري عنها.
◄ تنظيم “الدولة الإسلامية”: هو امتداد لتنظيم داعش في العراق، وتأتي تمويلاته من سيطرته على العشرات من الآبار النفطية في العراق وسوريا. وتشير التقارير إلى أنّ داعش يبيع النفط لقوات النظام، كما يحاول الآن السيطرة على حقول الغاز شرق حمص.
◄ جيش المجاهدين: شكل مطلع عام 2014، ويعدّ الفصيل الأقوى في حلب، والأكثر عددا وتوزّعا على جبهات القتال، وكان الهدف الأساسي من وراء تشكيله جمع سبعة فصائل كبيرة تحت مسمّى واحد للدخول في معركة ضد تنظيم “داعش”.
أيديولوجيا، لا توجد مرجعية فكرية واضحة لهذا الجيش، إلّا أنّه يمثّل تيارا شبابيا إسلاميا صاعدا وقريبا من نمط التديّن السائد في حلب وريفها.
◄ الفرقة 16: تشكّلت من 10 ألوية مقاتلة تعمل في حلب وريفها في أيلول 2013، وتحالفت مع وحدات حماية الشعب الكردية (التي كانت متواجدة في منطقة الشيخ مقصود) ضد مقاتلي داعش.
وتتبع لهيكلية الجيش السوري الحر، وتعد من الفصائل المعتدلة في سوريا. تهدف إلى إسقاط النظام السوري وقتال تنظيم “داعش” كونه “تنظيما متطرّفا لا يمثّل الثورة السورية”.
مستقبل ضبابي
تبرز من خلال التعقيدات التي يتّسم بها المشهد في الحل، الضبابية المحيطة بمستقبل الصراع الذي تشهده البلاد. وفي ظل تقدم الفصائل المسلحة بعد توحّد جهودها نحو حلب، والمساعي التي تبذلها قوى إقليمية لإضعاف النظام قبيل مفاوضات جنيف القادمة، يطرح سؤال جوهري مفاده؛ كيف ستتم السيطرة لاحقا على هذه الفصائل التي تعتنق أفكارا متشددة في مجملها؛ وماهي انعكاسات ذلك على المفاوضات القادمة مع اقتراب لقاءات جنيف التي تسعى فيها الأمم المتحدة عبر مبعوثها ستيفان دي ميستورا، إلى تقريب المواقف بين أطراف النزاع السوري، في الوقت الذي تحتدم فيه معارك الميدان وتأخذ منحى جديدا، وهو ما يزيد من ضبابية مستقبل الأزمة السورية.
صحيفة العرب