ست سنوات من القهر والذل والتشرّد والخوف عاشها السوريون، غيرت فيهم الكثير ابتداءً من تفاصيل حياتهم الصغيرة، حيث كانوا يستيقظون في منازلهم ليفتحوا النوافذ ويحتسوا القهوة على صوت فيروز ليجدوا أنفسم يستيقظون على أصوات القذائف والصواريخ والطائرات في خيام ٍ تفتقر حتى للنوافذ، وفي بعض الأحيان قد يستيقظوا ليجدوا أنفسهم في العراء وتلك الخيام ذهبت مع الريح، ولكن السوريين شعب أقوى من أن يكسر، يخلق الأمل ويعطر الدخان برائحة الياسمين، ويأبى أن تخلو حياته من الحب حتى ولو في زمن الحرب.
محمد عبد الفتاح ابراهيم من ريف حماة الشمالي، ريف الحب والتحدي من بلدة صغيرة كفرنبودة، أقام محمد مع عائلته في مدينة حمص ودرس فيها وعندما بدأت الثورة السورية في درعا ودوما كان محمد طالباً في الصف الثالث الثانوي، وفي أول مظاهرة خرجت في حي الوعر بحمص، خرج محمد مع والده للمشاركة في المظاهرة ليُحمل على الأكتاف ويصدح بأناشيد الثورة الحماسية، وبعد أيام جاء أمر استدعاء والد محمد من قبل النظام، فاضطر والد محمد لمغادرة حمص والعودة إلى مسقط رأسه بلدة كفرنبودة ريف حماة الشمالي.
وأثناء مكوثه في بلدته، ذهب والد محمد لزيارة أحد أصدقائه، وهناك وقعت عيناه على تلك الفتاة الهادئة التي تستعد كابنه محمد لامتحانات الشهادة الثانوية، واختارها عروساً لابنه قبل أن تقع عينيّ ابنه عليها، وعندما تحدث مع ابنه محمد اعترض، ولكن الصدفة شاءت أن يضطر محمد وبقية عائلته بعد مرور شهرين للحاق بأبيه إلى بلدته بعد أن بات هو الآخر مطلوباً لنظام الأسد.
اللقاء الأول
ولمجرد وصول محمد إلى كفرنبودة، اصطحبه والده لرؤية «هدى»، وكان محمد قد التحق بكلية الطب في جامعة القلمون وهدى بكلية الآداب قسم اللغة الفرنسية.
ما أن وقع نظر محمد على هدى حتى وقعا فريسة الحب، وشعرا أن الياسمين يزهر فوق ركام المنازل الذي دمرها القصف، وامتلأ قلبهما بطاقة يمكن أن تقتحم عشرات الحواجز، وكما الحرب يبدأ برصاصة وينتهي باحتلال كذلك كان الحب بالنسبة لهما، وهكذا بدأت قصة حب «محمد وهدى»، اللذين أنزل الله على أرواحهما سكينة غريبة، جعلتهما يتعاهدان منذ اللحظة الأولى على متابعة مشوارهما وحياتهما معاً.
اقتحام الجيش لكفرنبودة وإصابة محمد
بعد فترة اقتحمت قوات الأسد بلدة محمد وهدى، لكنها لم تستطع أن تثني الأهالي عن التظاهر، كما لم تستطع أن تمنع الحب في قلوب العشاق من أن ينمو أكثر وأكثر، ولكن «محمد» التحق بالثوار وفي تاريخ 16/2/2012، أثناء محاولة محمد ورفاقه زراعة ألغام لتفجير دبابات الأسد، انفجر أحد الألغام واستشهد 16 من رفاق محمد، أما محمد فقد بترت ساقه وتهشّمت الأخرى.
كان الحب هو من جعل قلب هدى يحس بما أصاب محمد قبل أن يعلم أحد بالخبر، بمجرد أن سمعت صوت الانفجار، أخبرها قلبها أن نصفه الآخر في خطر، وما هي إلا دقائق ليأتي من يخبرها بإصابة حبيبها، لتهرع إليه غير آبهة لا بعادات ولا بتقاليد ولا بغيرها، وكل ما تفكر فيه هو الاطمئنان على محمد ورؤية عينيه اللتين عشقتهما من النظرة الأولى.
كان قلبها هو من يسيرها لا قدميها، وهو من أعطاها القوة لتجري إلى المشفى، ولا تجده، فقد كانت قوات الأسد قد اقتحمت المشفى، فتلحق به إلى منزله، لتجده يكابر على جراحه وآلامه ويتناساها لمجرد رؤيتها أمامه، وتتألم هي عنه.
غادر محمد إلى تركيا لتلقي العلاج، وأخذ قلب هدى وروحها معه، وترك قلبه وروحه عند هدى، وبقي في تركيا ستة أشهر وأرواحهما معلقة بين كفرنبودة واسطنبول وأنطاكية، كانت أرواحهما هي اللي تتواصل مع بعضها لا ألسنتهما، وبقيت خلالها «هدى حلمه الجميل» الذي رافقه إلى غرف العمليات ومراكز الأطراف الصناعية والمعالجة الفيزيائية.
عودة محمد وزواج العاشقين
بعد انتهاء محمد من المرحلة الأولى من العلاج، عاد إلى كفرنبودة، ووجد الجميع ينتظرونه بفارغ الصبر، بينما هدى تنتظره على أحر من الجمر، ولم يستطع أن يصبر أكثر، ففي اليوم التالي لوصوله، ذهب محمد ووالده لخطبة هدى.
كان أهل هدى مترددين بالقبول أو الرفض، فمحمد لم يعد كما كان، وأصبح بساق اصطناعية، وكان هناك من يحاول ثني هدى، لكن حبها كان أكبر من محاولاتهم، وكان قرارها حتى لو لم يبق من محمد سوى رأسه لن تتزوج سواه، ولن ترض عنه بديلاً، وكان وما زال في عينهما أحلى وأغلى رجل في هذا الكون، وبوجوده تحلو الحياة ويصبح لها معنى، وهكذا تزوج محمد وهدى وتوّجا حبهما بابنتين جميلتين تحملان اسم الشام وبعضاً من جمالها في اسميهما ومظهريهما «مها الشام، صفا الشام».
العودة إلى تركيا
كان محمد بحاجة إلى عمليات جراحية لساقه الأخرى، فعاد إلى تركيا، ولكن الأوضاع في بلدته عادت وساءت أكثر من ذي قبل، ولحقت به زوجته وبقية أفراد عائلته، لكن والده أبى أن يترك بلدته ليدافع عنها الغرباء أو يستحلّها الأسد، فأوصل عائلته إلى حيث يقطن ابنه المبتور القدمين، وترك والدته لتعتني به وتعيله وتعيل عائلتها وعائلة ابنها الذي حاول مراراً البحث عن عمل دون جدوى، وترك هدى لتعتني بمحمد وتخفّف عنه ألم الوضع وضغط الحياة وصعوباتها وتمنحه الحب والحياة ليحسّ بأن شيئاً مما كان لم يكن، باستثناء حبهما الذي وُلد ونمى وأزهر وأثمر، ولا يزال في زمن اللاحب بل زمن الحرب.
المصدر: جريدة زيتون